والأنصار * (يقولون) * على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين، * (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) *. وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، من السابقين، من الصحابة، ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان، المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا. ولهذا ذكر الله في هذا الدعاء، نفي الغل عن القلب، الشامل لقليله وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو: المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين. فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان، لأن قولهم: * (سبقونا بالإيمان) * دليل على المشاركة فيه، وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم. ووصفهم بالإقرار بالذنوب، والاستغفار منها، واستغفار بعضهم لبعض، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد لإخوانهم المؤمنين لأن دعاءهم بذلك، مستلزم لما ذكرنا، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن ينصح له حاضرا وغائبا، حيا وميتا. ودلت الآية الكريمة على أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض. ثم ختموا دعاءهم بإسمين كريمين، دالين على كمال رحمة الله، وشدة رأفته وإحسانه بهم، الذي من جملته، بل أجله، توفيقهم للقيام بحقوقه وحقوق عباده. فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام. وهؤلاء أهله الذين هم أهله، جعلنا الله منهم، بمنه وكرمه. ثم تعجب تعالى من حال المنافقين، الذين أطمعوا إخوانهم من أهل الكتاب، في نصرتهم وموالاتهم على المؤمنين، وأنهم يقولون لهم: * (لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا) *، أي: لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا. * (وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون) * في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم. ولا يستكثر هذا عليهم، فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع مقارنهم، والنفاق والجبن يصحبهم، ولهذا كذبهم الله بقوله، الذي وجد مخبره كما أخبر به، ووقع طبق ما قال، فقال: * (لئن أخرجوا) *، أي: من ديارهم جلاء ونفيا * (لا يخرجون معهم) * لمحبتهم للأوطان وعدم صبرهم على القتال، وعدم وفائهم بالوعد. * (ولئن قوتلوا لا ينصرونهم) *، بل يستولي عليهم الجبن، ويملكهم الفشل، ويخذلون إخوانهم، أحوج ما كانوا إليهم. * (ولئن نصروهم) * على الفرض والتقدير، * (ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) * أي: سيحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة، ولا يحصل لهم نصر من الله. والسبب الذي حملهم على ذلك، أنكم أيها المؤمنين * (أشد رهبة في صدورهم من الله) * فخافوا منكم، أعظم مما يخافون من الله، وقدموا مخافة المخلوق، الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، على مخافة الخالق، الذي بيده الضر والنفع، والعطاء والمنع. * (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) * مراتب الأمور، ولا يعرفون حقائق الأشياء، ولا يتصورون العواقب، وإنما الفقه كل الفقه، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه، ومحبته، مقدما على غيره، وغيرها تبعا لها. * (لا يقاتلونكم جميعا) *، أي: في حال الاجتماع * (إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر) *، أي: لا يثبتون على قتالكم، ولا يعزمون عليه، إلا إذا كانوا متحصنين في القرى، أو من وراء الجدر والأسوار. فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع، اعتمادا على حصونهم وجدرهم، لا شجاعة بأنفسهم، وهذا من أعظم الذم. * (بأسهم بينهم شديد) *، أي: بأسهم فيما بينهم شديد، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم، وإنما الآفة في ضعف إيمانهم، وعدم اجتماع كلمتهم، ولهذا قال: * (تحسبهم جميعا) * حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين. * (و) * لكن * (قلوبهم شتى) *، أي: متباغضة متفرقة متشتتة. * (ذلك) * الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر * (بأنهم قوم لا يعقلون) *، أي: لا عقل عندهم، ولا لب، فإنهم لو
(٨٥٢)