تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٥٠
عزتهم، ولا منعتهم قوتهم، ولا حصنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر الله، فوصل إليهم النكال بذنوبهم، والعبرة بعموم المعنى، لا بخصوص السبب. فإن هذه الآية، تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء على ما يشابهه، والتفكر فيما تضمنته الأحكام، من المعاني والحكم، التي هي محل العقل والفكرة، وبذلك يكمل العقل، وتتنور البصيرة، ويزداد الإيمان، ويحصل الفهم الحقيقي. ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة، وأن الله خفف عنهم. * (ولولا أن الله كتب عليهم الجلاء) * الذي أصابهم وقضاه عليهم، بقدره الذي لا يبدل ولا يغير، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها. ولكنهم وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي فإن لهم في الآخرة عذاب النار، الذي لا يمكن أن يعلم شدته إلا الله. فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية، فما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم وأطم. * (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) * وعادوهما وحاربوهما، وسعوا في معصيتهما، وهذه سنته وعادته فيمن شاقه * (ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب) *. ولما لام بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في قطع النخيل والأشجار، وزعموا أن ذلك من الفساد، وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه، إن أبقوه * (فبإذن الله) * وأمره * (وليخزي الفاسقين) * حيث سلطكم على قطع نخلهم وتحريقها، ليكون ذلك نكالا لهم، وخزيا في الدنيا، وذلا يعرف به عجزهم التام، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم الذي هو مادة قوتهم. واللينة: تشمل النخيل كله، على أصح الاحتمالات وأولاها. فهذه حال بني النضير، وكيف عاقبهم الله في الدنيا. ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم، فقال: * (وما أفاء الله على رسوله منهم) *، أي: من أهل هذه القرية، وهم بنو النضير. * (ف) * إنكم يا معشر المسلمين * (ما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *، أي: ما أجلبتم ولا حشدتم، أي: لم تتعبوا بتحصيلها، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم، بل قذف الله في قلوبهم الرعب، فأتتكم صفوا عفوا. ولهذا قال: * (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير) *. ومن تمام قدرته، أنه لا يمتنع عليه ممتنع، ولا يعزز من دونه قوي. وتعريف الفيء باصطلاح الفقهاء: هو ما أخذ من مال الكفار بحق، من غير قتال، كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من المسلمين، وسمي فيئا، لأنه رجع من الكفار، الذين هم غير مستحقين له، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر فيه. وحكمه العام، كما ذكره الله بقوله: * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) * عموما، سواء كان في وقت الرسول أو بعده، على من تولى (الإمارة) من بعده من أمته. * (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) *، وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال، وهي قوله: * (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) *. فهذا الفيء يضم خمسة أقسام: لله، ولرسوله، يصرف في مصالح المسلمين العامة. وخمس لذي القربى، وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب، حيث كانوا، يسوى فيه بين ذكورهم وإناثهم. وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس مع بني هاشم، ولم يدخل بقية بني عبد مناف، لأنهم شاركوا بني هاشم، في دخولهم الشعب، حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم، فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف غيرهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في بني عبد المطلب: (إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام). وخمس لفقراء اليتامى، وهم: من لا أب له ولم يبلغ. وخمس للمساكين. وخمس لأبناء السبيل، وهم الغرباء
(٨٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 845 846 847 848 849 850 851 852 853 854 855 ... » »»