كانت لهم عقول، لآثروا الفاضل على المفضول، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين، ولكانت كلمتهم مجتمعة، وقلوبهم مؤتلفة، فبذلك يتناصرون، ويتعاضدون، ويتعاونون على مصالحهم الدينية والدنيوية، مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب، الذين انتصر الله لرسوله منهم، وأذاقهم الخزي في الحياة الدنيا. وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة * (كمثل الذي من قبلهم قريبا) * وهم كفار قريش الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: * (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم * فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) *. فغرتهم أنفسهم، وغرهم من غرهم، الذين لم ينفعوهم، ولم يدفعوا عنهم العذاب، حتى أتوا (بدرا) بفخرهم وخيلائهم، ظانين أنهم مدركون برسول الله والمؤمنين أمانيهم. فنصر الله رسوله والمؤمنين عليهم، فقتلوا كبارهم وصناديدهم، وأسروا من أسروا منهم، وفر من فر. وبذلك * (ذاقوا وبال أمرهم) * وعاقبة شركهم وبغيهم. هذا في الدنيا * (ولهم) * في الآخرة * (عذاب أليم) *. ومثل هؤلاء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب * (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر) *، أي: زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه. فلما اغتر به وكفر، وحصل له الشقاء، لم ينفعه الشيطان، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه، بل تبرأ منه * (وقال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) *، أي: ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير. * (فكان عاقبتهما) *، أي: الداعي الذي هو الشيطان، والمدعو الذي هو الإنسان حين أطاعه * (أنهما في النار خالدين فيها) * كما قال تعالى: * (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) *. * (وذلك جزاء الظالمين) * الذين اشتركوا في الظلم والكفر، وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته. وهذا دأب الشيطان مع كل أوليائه، فإنه يدعوهم ويدليهم بغرور، إلى ما يضرهم، حتى إذا وقعوا في الشباك، وحاق بهم أسباب الهلاك، تبرأ منهم، وتخلى عنهم. واللوم كل اللوم على من أطاعه، فإن الله قدر منه، وأنذر، وأخبر بمقاصده وغايته، ونهايته، فالمقدم على طاعته عاص على بصيرة، لا عذر له. * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أول ئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون * لو أنزلنا ه ذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) * يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان، ويقتضيه من لزوم تقواه، سرا وعلانية، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به، من أوامره وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة. فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم، وقبلة قلوبهم، واهتموا للمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق، التي توقفهم عن السير، أو تعوقهم أو تصرفهم. وإذا علموا أيضا أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه أعمالهم، ولا تضيع لديه، ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد. وهذه الآية الكريمة، أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللا، تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا، في أمر من أوامر الله، بذل جهده، واستعان بربه في تتميمه، وتكميله، وإتقانه. ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه، وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء لا محالة. والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله، وغفلوا عن ذكره، والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل. بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا، لا يمكن تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم، وأوضعوا في معاصيه. فهل يستوي من حافظ على تقوى الله، ونظر لما قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم مع الذين أنعم الله عليهم، من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين ومن غفل عن ذكره، ونسي حقوقه فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة. فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون. ولما بين تعالى لعباده ما بين، وأمر عباده ونهاهم في كتابه العزيز، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه، وحثهم عليه، ولوا كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي. فإن هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن، أعظم المواعظ على الإطلاق. وأوامره ونواهيه، محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على
(٨٥٣)