تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٩٣
بما أمره الله به * (ويعذب من يشاء) * ممن تهاون بأمر الله، * (وكان الله غفورا رحيما) *، أي: وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة. فلا يزال في جميع الأقات يغفر للمذنبين، ويتجاوز عن الخطائين، ويتقبل توبة التائبين، وينزل خيره المدار، آناء الليل والنهار. * (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) * لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية، أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها ليأخذوها، طلبوا منهم الصحبة والمشاركة، ويقولون: * (ذرونا نتبعكم يريدون) * بذلك * (أن يبدلوا كلام الله) * حيث حكم بعقوبتهم، واختصاص الصاحبة المؤمنين بتلك الغنائم، شرعا وقدرا. * (قل) * لهم * (لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) * إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم، وبما تركتم القتال أول مرة. * (فسيقولون) *، مجيبين لهذا الكلام، الذي منعوا به عن الخروج: * (بل تحسدوننا) * على الغنائم، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع. ولو فهموا رشدهم، لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم، وأن المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية، ولهذا قال: * (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) *. * (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما) * لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب، يتخلفون عن الجهاد في سبيله، ويعتذرون بغير عذر، وأنهم يطلبون الخروج معهم، إذا لم يكن شوكة ولا قتال، بل لمجرد الغنيمة، قال تعالى ممتحنا لهم: * (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) *، أي: سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة. وهؤلاء القوم هم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم. * (تقاتلونهم أو يسلمون) *، أي: إما هذا وإما هذا. وهذا هو الأمر الواقع، فإنهم في حال قتالهم، ومقاتلتهم لأولئك الأقوام، إذا كانت شدتهم وبأسهم معهم، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية، بل إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه. فلما أثخنهم المسلمون، وضعفوا وذلوا، ذهب بأسهم، فصاروا إما أن يسلموا، وإما أن يبذلوا الجزية، * (فإن تطيعوا) * الداعي إلى قتال هؤلاء * (يؤتكم الله أجرا حسنا) *، وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله. * (وإن تتولوا كما توليتم من قبل) * عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله، * (يعذبكم عذابا أليما) *، ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس، وأنه تجب طاعتهم في ذلك. ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد، عن الخروج إلى الجهاد، فقال: * (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) *، أي: في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع. * (ومن يطع الله ورسوله) * في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما * (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) *، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين. * (ومن يتول) * عن طاعة الله ورسوله * (يعذبه عذابا أليما) *، فالسعادة كلها في طاعة الله، والشقاوة في معصيته ومخالفته. * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما * وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم ه ذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما * وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا) * يخبر تعالى، بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذا يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة. وكان سبب هذه البيعة التي يقال لها: (بيعة الرضوان) لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها: (بيعة أهل الشجرة) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية، في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائرا هذا البيت، معظما له. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لمكة في ذلك. فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون. فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة، فبايعوه تحت شجرة، على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا. فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات * (فعلم ما في قلوبهم) * من الإيمان * (فأنزل
(٧٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 788 789 790 791 792 793 794 795 796 797 798 ... » »»