تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٩٥
من كثير من المعاصي. * (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به، بل صبروا لحكم الله، والتزموا الشروط، والتزموا الشروط، التي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت، ولم يبالوا بقول القائلين، ولا بلوم اللائمين. * (وألزمهم كلمة التقوى) * وهي (لا إله إلا الله) وحقوقها، ألزمهم القيام بها، فالتزموها، وقاموا بها. * (وكانوا أحق بها) * من غيرهم * (و) * كانوا * (أهلها) * الذين استأهلوا لما يعلم الله عندهم، وفي قلوبهم من الخير، ولهذا قال: * (وكان الله بكل شيء عليما) *. * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) * يقول تعالى: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) *، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه، أنهم سيدخلون مكة، ويطوفون بالبيت. فلما جرى يوم الحديبية ما جرى، ورجعوا من غير دخول لمكة، كثر في ذلك الكلام منهم، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال: (أخبرتكم أنه العام؟) قالوا: لا، قال: (فإنكم ستأتونه وتطوفون به). قال الله تعالى هنا: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) *، أي: لا بد من وقوعها وصدقها، ولا يقدح في ذلك تأويلها. * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين) *، أي: في هذه الحال، المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام، وأدائكم للنسك، وتكميله بالحلق والتقصير، وعدم الخوف. * (فعلم) * من المصالح والمنافع * (ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك) * الدخول بتلك الصفة * (فتحا قريبا) *. ولما كانت هذه الواقعة، مما تشوشت به قلوب بعض المؤمنين، وخفيت عليهم حكمتها، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها، وهكذا سائر أحكامه الشرعية، فإنها كلها هدى ورحمة. أخبر بحكم عام، فقال: * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) * الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، ويبين طرق الخير والشر. * (ودين الحق) *، أي: الدين الموصوف بالحق، وهو: العدل، والإحسان، والرحمة. وهو: كل عمل مزك للقلوب، مطهر للنفوس، مرب للأخلاق، معل للأقدار. * (ليظهره) * بما بعثه الله به * (على الدين كله) * بالحجة والبرهان، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان. * (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) * يخبر تعالى عن نبيه * (محمد رسول الله) * صلى الله عليه وسلم * (والذين معه) * من أصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال. وأنهم * (أشداء على الكفار) *، أي: جادون ومجتهدون في نصرتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يرى الكفار منهم إلا الغلظة والشدة.
فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون. * (رحماء بينهم) *، أي: متحابون، متراحمون، متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه، ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق. وأما معاملتهم مع الخالق فإنك * (تراهم ركعا سجدا) *، أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها: الركوع والسجود. * (يبتغون) * بتلك العبادة * (فضلا من الله ورضوانا) *، أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه. * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) *، أي: قد أثرت العبادة من كثرتها وحسنها في وجوههم، حتى استنارت. لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت بالجلال، ظواهرهم. * (ذلك) * المذكور * (مثلهم في التوراة) *، أي: هذا وصفهم، الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا. * (ومثلهم في الإنجيل) * بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم * (كزرع أخرج شطأه فآزره) *، أي: أخرج أفرخه فوازرته فراخه، في الثبات والاستواء. * (فاستغلظ) * ذلك الزرع، أي: قوي وغلظ * (فاستوى) *، أي: قوي واستقام * (على سوقه) *، جمع ساق، أي: أصوله، والمراد أنه قوي وقام على قضبانه. * (يعجب الزراع) * من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله. كذلك الصحابة رضي الله عنهم، هم كالزرع، في نفعهم للخلق، واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع، وسوقه. وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق، ووازره، وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه،
(٧٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 790 791 792 793 794 795 796 797 798 799 800 ... » »»