تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٩٦
كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ. ولهذا قال: * (ليغيظ بهم الكفار) * حين يرون اجتماعهم، وشدتهم على أعداء دينهم، وحين يتصادمون معهم في معارك النزال، ومعامع القتال. * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) *، فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها، وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة. ولنسق قصة الحديبية بطولها، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في (الهدي النبوي) فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة، وقد تكلم على معانيها وأسرارها. فصل في قصة الحديبية قال رحمه الله: قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقال هشام بن عروة، عن أبيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان. وفي الصحيحين، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، وكان معه ألف وخمسمائة، وهكذا في الصحيحين، عن جابر، وعنه فيهما: كانوا ألفا وأربعمائة. وفيهما، عن عبد الله بن أبي أوفى: كنا ألفا وثلاثمائة. قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الجماعة الذي شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله، وهم، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قلت: صح عن جابر القولان، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية، سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفا وأربعمائة، بخيلنا ورجلنا، يعني: فارسهم وراجلهم. والقلب إلى هذا أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حزن، قال شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة، وغلط غلطا بينا من قال: كانوا سبعمائة. وعذرهم أنهم نحروا يومئذ، سبعين بدنة، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة، أو عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة، كانت في هذه الغزوة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا، وقد قال بتمام الحديث بعينه، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة. فصل فلما كان بذي الحليفة، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريبا عن عسفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن نميل إلى ذراري هؤلاء، الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا، قعدوا موتورين مخزونين، وإن نجوا، يكن عنق قطعه الله، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، لم نجىء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت، قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فروحوا إذا). فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خالد بن الوليد بالغميم خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين)، فوالله ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية، التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتمهم إياها)، ثم زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش. فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري، حتى صدروا عنها. وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله، ليس بمكة من بني كعب، أحد يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: (أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عمارا، وادعهم إلى الإسلام). وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق
(٧٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 791 792 793 794 795 796 797 798 799 800 801 ... » »»