يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم. * (والله يعلم متقلبكم) * أي: تصرفاتكم وحركاتكم، وذهابكم ومجيئكم، * (ومثواكم) * الذي به تستقرون، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه. * (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أول ئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) * يقول تعالى: * (ويقول الذين آمنوا) * استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة: * (لولا نزلت سورة) *، أي: فيها الأمر بالقتال. * (فإذا أنزلت سورة محكمة) *، أي: ملزم العمل بها، * (وذكر فيها القتال) *، الذي هو أشق شيء على النفوس، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر، ولهذا قال: * (رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) * من كراهتهم لذلك، وشدته عليهم. وهذا كقوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) *. ثم ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم، فقال: * (فأولى لهم طاعة وقول معروف) *، أي: فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم، ويجمعوا عليه هممهم، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم، وليفرحوا بعافية الله تعالى وعفوه. * (فإذا عزم الأمر) *، أي: جاءهم أمر جد، وأمر حتم * (فلو صدقوا الله) * في هذه الحال بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله * (لكان خيرا لهم) * من حالهم الأولى، وذلك من وجوه: منها: إن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا إن أعانه الله، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده. ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل، ضعف عن العمل، بوظيفة وقته الحاضر، وبوظيفة المستقبل. أما الحال، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره، والعمل تبع للهمة، وأما المستقبل، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه. ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر، شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته، على ما يستقبل من أموره. فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما هم به، وتوعد نفسه عليه، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكره ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته. ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط، وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعينا بربه في ذلك، فهذا أحرى بالتوفيق والتسديد في جميع أموره. ثم ذكر تعالى المتولي عن طاعة ربه، وأنه لا يتولى إلى خير، بل إلى شر، فقال: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) *، أي: فهما أمران، إما التزام لطاعة الله، وامتثال لأوامره، فثم الخير والرشد والفلاح، وإما الإعراض عن ذلك، والتولي عن طاعة الله فما ثم إلا الفساد في الأرض، بالعمل بالمعاصي، وقطيعة الأرحام. * (أولئك الذين) * أفسدوا في الأرض، وقطعوا أرحامهم * (لعنهم الله) * بأن أبعدهم عن رحمته، وقربوا من سخط الله. * (فأصمهم وأعمى أبصارهم) *، أي: جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم، ولا يبصرونه. فلهم آذان ولكن لا تسمع سماع إذعان وقبول، وإنما تسمع سماعا تقوم بها حجة الله عليها، ولهم أعين، ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات، ولا يلتفتون بها إلى البراهين والبينات. * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان. ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء يحذر. ولعرفهم بربهم، وأسمائه وصفاته، وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل. * (أم على قلوب أقفالها) *، أي: قد أغلق على ما فيها من الإعراض والغفلة والاعتراض، وأقفلت،
(٧٨٨)