تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٩٠
النفل، من غير موجب لذلك. وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال، فهو أمر بإصلاحها، وإكمالها وإتمامها، والإتيان بها، على الوجه الذي تصلح به علما وعملا. * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) * هذه الآية والتي في البقرة وهي قوله تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) * مقيدتان، لكل نص مطلق، فيه إحباط العمل بالكفر، فإنه مقيد بالموت عليه. فقال هنا: * (إن الذين كفروا) * بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر * (وصدوا) * الخلق * (عن سبيل الله) * بتزهيدهم إياهم بالحق، ودعوتهم إلى الباطل، وتزيينه. * (ثم ماتوا وهم كفار) * لم يتوبوا منه * (فلن يغفر الله لهم) * لا بشفاعة ولا بغيرها، لأنه قد تحتم عليهم العقاب، وفاتهم الثواب، ووجب عليهم الخلود في النار، وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار. ومفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم، فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ويدخلهم الجنة، ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله، والإقدام على معاصيه. فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة، ولم يغلقها عن أحد، ما دام حيا متمكنا من التوبة. وسبحان الحليم، الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يعافيهم، ويرزقهم، كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم. ثم قال تعالى: * (فلا تهنوا) * أي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم، ويستولي عليكم الخوف، بل اصبروا واثبتوا، ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد، طلبا لمرضاة ربكم، ونصحا للإسلام، وإغضابا للشيطان. * (و) * لا * (تدعوا إلى السلم) * والمتاركة بينكم وبين أعدائكم، طلبا للراحة، * (و) * الحال أنكم * (أنت الأعلون والله معكم ولن يتركم) *، أي: ينقصكم * (أعمالكم) *. فهذه الأمور الثلاثة، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين، أي: قد توفرت لهم أسباب النصر، ووعدوا من الله بالوعد الصادق، فإن الإنسان لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عددا، أو عددا وقوة داخلية وخارجية. الثاني: أن الله معهم، فإنهم مؤمنون، والله مع المؤمنين، بالعون والنصر والتأييد، وذلك موجب لقوة قلوبهم، وإقدامهم على عدوهم. الثالث: أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئا، بل سيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، خصوصا عبادة الجهاد، فإن النفقة تضاعف فيه، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. * (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *. فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده، أوجب له ذلك النشاط، وبذل الجهد، فيما يترتب عليه الأجر والثواب، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة؟ فإن ذلك يوجب النشاط التام، فهذا من ترغيب الله لعباده، وتنشيطهم وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم. * (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم * إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم * ها أنتم ه ؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) * هذا تزهيد منه تعالى لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها، بأنها لعب ولهو، لعب في الأبدان ولهو في القلوب. فلا يزال العبد لاهيا في ماله، وأولاده، وزينته، ولذاته من النساء، والمآكل والمشارب، والمساكن والمجالس، والمناظر والرياسات، لاعبا في كل عمل لا فائدة فيه، بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي، حتى يستكمل دنياه، ويحضره أجله. فإذا هذه الأمور قد ولت وفارقت، ولم يحصل العبد منها على طائل، بل قد تبين له خسرانه وحرمانه وحضر عذابه، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها، وعدم الرغبة فيها، والاهتمام بشأنها. وإنما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله: * (وإن تؤمنوا وتتقوا) * بأن تؤمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم الإيمان ومقتضياته، وهي العمل بمرضاته على الدوام، مع ترك معاصيه، فهذا الذي ينفع العبد، وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه، وتبذل الهمم والأعمال في طلبه. وهو مقصود الله من عباده رحمة بهم، ولطفا، ليثيبهم الثواب الجزيل، ولهذا قال: * (وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم) *، أي: لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم، ويعنتكم من أخذ أموالكم، وبقائكم بلا مال، أو ينقصكم نقصا يضركم، ولهذا قال: * (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) *، أي: ما في قلوبكم من الضغن، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله. الدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها، أنكم تمنعون منها أنكم * (تدعون لتنفقوا في سبيل الله) * على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية. * (فمنكم من يبخل) *. أي: فكيف لو سألكم، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى، امتناعكم من ذلك.
(٧٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 785 786 787 788 789 790 791 792 793 794 795 ... » »»