تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٩٧
عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله، وإلى الإسلام، ويخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد، فرحب به، وأسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، وأردفه أبان، حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت، وطاف به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون) ، فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال: (ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه)، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح. فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتضى كل واحد من الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة. فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نفسه، وقال: (هذه عن عثمان)، ولما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله، من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، والذي نفسي بيده، ولو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية، ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس، وكان معقل بن يسار، أخذ بغصنها، يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع، ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم. فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما الناس، فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال، فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا، حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره)، قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا من الناس، خليقا أن يفروا، ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي، لم أجزك بها، لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال، فلست منه في شيء). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه. وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر، تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله، لقد وفدت على الملوك: على كسرى، وقيصر، والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله ما تنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر، تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بين كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)، فبعثوها فاستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت، وأشعرت، وما أرى يصدون عن البيت. فقام مكرز بن
(٧٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 792 793 794 795 796 797 798 799 800 801 802 ... » »»