لأنه نعيم لا مغص فيه ولا كدر، ولا انتقال. ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال: * (للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) * أي: جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة وبين التوكل، الذي هو الآلة لكل عمل. فكل عمل لا يصحبه التوكل، فغير تام، وهو (أي: التوكل) الاعتماد بالقلب على الله. في جلب ما يحبه العبد، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى. * (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) * والفرق بين الكبائر والفواحش مع أن جميعهما كبائر أن الفواحش هي: الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها، كالزنا ونحوه، والكبائر، ما ليس كذلك، هذا عند الاقتران. وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر يدخل فيه. * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) * أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم، طبيعة. حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله، أو فعاله، كظموا ذلك الغضب، فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسئ إلا بالإحسان والعفو والصفح. فترتب على هذا العفو والصفح، من المصالح، ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم، شيء كثير، كما قال تعالى: * (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) *. * (والذين استجابوا لربهم) * أي: انقادوا لطاعته، ولبوا دعوته، وصار قصدهم رضوانه، وغايتهم الفوز بقربه. ومن الاستجابة لله، إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فلذلك عطفها على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، الدال على شرفه وفضله فقال: * (وأقاموا الصلاة) * أي: ظاهرها وباطنها، فرضها ونفلها. * (ومما رزقناهم ينفقون) * من النفقات الواجبة، كالزكاة، والنفقة على الأقارب ونحوهم، والمستحبة، كالصدقات على عموم الخلق. * (وأمرهم) * الديني والدنيوي * (شورى بينهم) * أي: لا يستبد أحد منهم برأيه، في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم، وتوالفهم، وتواددهم، وتحاببهم. فمن كمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها، وتشاوروا، وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها. وذلك كالرأي في الغزو، والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة، أو قضاء، أو غيرهما. وكالبحث في المسائل الدينية عموما، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية. * (والذين إذا أصابهم البغي) * أي: وصل إليهم من أعدائهم * (هم ينتصرون) * لقوتهم وعزتهم، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار. فوصفهم بالإيمان، والتوكل على الله، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر، والانقياد التام، والاستجابة لربهم، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الإحسان، والمشاورة في أمورهم، والقوة والانتصار على أعدائهم. فهذه خصال الكمال قد جمعوها، ويلزم من قيامها فيهم، فعل ما هو دونها، وانتفاء ضدها. * (وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأول ئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أول ئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) * ذكر الله في هذه الآيات، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل، وفضل، وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص. فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسئ، ولهذا قال: * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا. وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به. وفي جعل أجر العافي على الله، ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به. فكما يحب أن يعفو الله عنه، فليعف عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل. وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: * (إنه لا يحب الظالمين) * الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. * (ولمن انتصر بعد ظلمه) * أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه * (فأولئك ما عليهم من سبيل) * أي: لا حرج عليهم في ذلك. ودل قوله: * (والذين إذا أصابهم البغي) * وقوله: * (ولمن انتصر من بعد ظلمه) * أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه. وأما إرادة البغي على الغير، وإرادة
(٧٦٠)