* (الله يجمع بيننا وإليه المصير) * يوم القيامة، فيجزي كلا بعمله، ويتبين حينئذ الصادق من الكاذب. وهذا تقرير لقوله: * (لا حجة بيننا وبينكم) *. * (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) * فأخبر هنا أن * (الذين يحاجون في الله) * بالحجج الباطلة، والشبه المتناقضة * (من بعد ما استجيب له) * أي: من بعد ما استجاب لله أولو الألباب والعقول، لما بين لهم من الآيات القاطعة، والبراهين الساطعة. فهؤلاء المجادلون للحق، من بعد ما تبين * (حجتهم داحضة) * أي: باطلة مدفوعة * (عند ربهم) * لأنها مشتملة على رد الحق، وكل ما خالف الحق، فهو باطل. * (وعليهم غضب) * لعصيانهم وإعراضهم عن حجج الله وبيناته وتكذيبها. * (ولهم عذاب شديد) * هو أثر غضب الله عليهم، فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل. * (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد) * لما ذكر تعالى، أن حججه واضحة بينة، بحيث استجاب لها كل من فيه خير، ذكر أصلها وقاعدتها، بل جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد، ترجع إليه فقال: * (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) * فالكتاب، هو هذا القرآن العظيم، نزل بالحق، واشتمل على الحق، والصدق، واليقين، وكله آيات بينات، وأدلة واضحات، على جميع المطالب الإلهية، والعقائد الدينية، فجاء بأحسن المسائل، وأوضح الدلائل. وأما الميزان، فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح، والعقل الرجيح. فكل الدلائل العقلية، من الآيات الأفقية والنفسية، والاعتبارات الشرعية، والمناسبات، والعلل، والأحكام، والحكم، داخلة في الميزان، الذي أنزله الله تعالى، ووضعه بين عباده، ليزنوا به ما أثبته وما نفاه من الأمور، ويعرفوا به صدق ما أخبر به، وأخبرت به رسله، مما خرج عن هذين الأمرين عن الكتاب والميزان وما قيل إنه حجة أو برهان، أو دليل، أو نحو ذلك من العبارات، فإنه باطل متناقض، قد فسدت أصوله، وانهدمت مبانيه وفروعه. يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها، وعرف التمييز بين راجح الأدلة ومرجوحها، والفرق بين الحجج والشبه. وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة، والألفاظ المموهة، ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد، فإنه ليس من أهل هذا الشأن، ولا من فرسان هذا الميدان، فوفاقه وخلافه سيان. ثم قال تعالى مخوفا للمستعجلين لقيام الساعة، المنكرين لها: * (وما يدريك لعل الساعة قريب) * أي: ليس بمعلوم وقتها وبعدها، ولا متى تقوم، فهي في كل وقت، متوقع وقوعها، مخوف وجبتها. * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) * عنادا وتكذيبا، وتعجيزا لربهم. * (والذين آمنوا مشفقون منها) * أي: خائفون، لإيمانهم بها، وعلمهم بما اشتملت عليه من الجزاء بالأعمال، وخوفهم، لمعرفتهم بربهم، أن لا تكون أعمالهم منجية ولا مسعدة، ولهذا قال: * (ويعلمون أنها الحق) * الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه. * (ألا إن الذين يمارون في الساعة) * أي: بعدما امتروا فيها، ماروا الرسل وأتباعهم بإثباتها * (لفي ضلال بعيد) * في غاية البعد عن الحق. وأي بعد، أبعد ممن كذب بالدار، التي هي الدار على الحقيقة، وهي الدار التي خلقت للبقاء الدائم، والخلود السرمد، وهي دار الجزاء، التي يظهر الله فيها عدلة وفضله؟ وإنما هذه الدار بالنسبة إليها، كراكب قال في ظل شجرة، ثم رحل وتركها، وهي دار عبور وممر، لا محل استقرار. فصدقوا في الدار المضمحلة الفانية، حيث رأوها وشاهدوها، وكذبوا بالدار الآخرة، التي تواترت بالإخبار عنها الكتب الإلهية، والرسل الكرام وأتباعهم، الذين هم أكمل الخلق عقولا، وأغزرهم علما، وأعظمهم فطنة وفهما. * (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) * يخبر تعالى أنه * (لطيف بعباده) * ليعرفوه ويحبوه، ويتعرضوا للطفه وكرمه. واللطف من أوصافه تعالى، معناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر، الذي يوصل عباده وخصوصا المؤمنين إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون. فمن لطفه بعبده المؤمن، أن هداه إلى الخير، هداية لا تخطر بباله، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيعازه تعالى لملائكته الكرام، أن يثبتوا عباده المؤمنين، ويحثوهم على الخير، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق، ما يكون داعيا لاتباعه. ومن لطفه أن أمر المؤمنين، بالعبادات الاجتماعية، التي بها تقوى عزائمهم، وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس
(٧٥٦)