عليهم من كل باب * (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *. ويقولن لهم أيضا: * (ولكم فيها) * أي: في الجنة * (ما تشتهي أنفسكم) * قد أعد وهيىء. * (ولكم فيها ما تدعون) * أي: تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات، مما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. * (نزلا من غفور رحيم) * أي: هذا الثواب الجزيل، والنعيم المقيم، نزل وضيافة * (من غفور) * غفر لكم السيئات. * (رحيم) * حيث وفقكم لفعل الحسنات، ثم قبلها منكم. فبمغفرته، أزال عنكم المحذور، وبرحمته، أنالكم المطلوب. * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) * هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولا. أي: كلاما وطريقة، وحالة * (ممن دعا إلى الله) * بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه. خصوصا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومن الدعوة إلى الله، تحبيبه إلى عباده، بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده، وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله، ونعوت جلاله. ومن الدعوة إلى الله، التغريب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله، وسنه رسوله، والحث على ذلك، الحث على مكارم الأخلاق، والإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسئ بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين. ومن ذلك، الوعظ لعموم الناس، في أوقات المواسم، والعوارض، والمصائب، بما يناسب ذلك الحال، إلى غير ذلك، مما لا تنحصر أفراده، بما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر. ثم قال تعالى: * (وعمل صالحا) * أي: مع دعوته الخلق إلى الله، بادر هو بنفسه، إلى امتثال أمر الله، بالعمل الصالح، الذي يرضي ربه. * (وقال إنني من المسلمين) * أي: المنقادين لأمره، السالكين في طريقه. وهذه المرتبة، تمامها للصديقين، الذين عملوا على تكميل أنفسهم، وتكميل غيرهم، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل. كما أن من شر الناس قولا، من كان من دعاة الضلال السالكين لسبله. وبين هاتين المرتبتين المتباينتين، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين، ونزلت الأخرى، إلى أسفل سافلين، مراتب، لا يعلمها إلا الله، وكلها معمورة بالخلق * (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) *. * (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * يقول تعالى: * (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) * أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات، لأجل رضا الله تعالى، وفعل السيئات والمعاصي، التي تسخطه ولا ترضيه. ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) *. ثم أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو: الإحسان إلى من أساء إليك فقال * (ادفع بالتي هي أحسن) * أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه. فإن قطعك فصله، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبا أو حاضرا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فطيب له الكلام، وابذل له السلام. فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة. * (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * أي: كأنه قريب شفيق. * (وما يلقاها) * أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة * (إلا الذين صبروا) * نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله. فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسئ بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟ فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا تفيده شيئا، ولا تزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره، بل من تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذا مستحليا له. * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) *
(٧٤٩)