تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٦٥
فقال تعالى: * (بل متعت هؤلاء وآباءهم) * بأنواع الشهوات، حتى صارت هي غايتهم، ونهاية مقصودهم، فلم تزل يتربي حبها في قلوبهم، حتى صارت صفات راسخة، وعقائد متأصلة. * (حتى جاءهم الحق) * الذي لا شك فيه، ولا مرية ولا اشتباه. * (ورسول مبين) * أي: بين الرسالة، قامت أدلة رسالته، قياما باهرا، بأخلاقه، ومعجزاته، وبما جاء به، وبما صدق به المرسلين، وبنفس دعوته صلى الله عليه وسلم. * (ولما جاءهم الحق) * الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول، أن يقبله وينقاد له. * (قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) * وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة. فإنهم لم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل ولا جحده، فلم يرضوا حتى قدحوا به، قدحا شنيعا، وجعلوه بمنزلة السحر الباطل، الذي لا يأتي به إلا أخبث الخلق، وأعظمهم افتراء. والذي حملهم على ذلك، طغيانهم بما متعهم الله به وآباءهم. * (وقالوا) * مقترحين على الله بعقولهم الفاسدة: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * أي: معظم عندهم، مبجل من أهل مكة، وأهل الطائف، كالوليد بن المغيرة، ونحوه، ممن هو عندهم عظيم. قال الله ردا لاقتراحهم: * (أهم يقسمون رحمة ربك) * أي: أهم الخزان لرحمة الله، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة من يشاؤون، ويمنعونها ممن يشاؤون؟ * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) * أي: في الحياة الدنيا، * (و) * الحال أن * (رحمة ربك خير مما يجمعون) * من الدنيا. فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوة والرسالة، وأحرى أن تكون بيد الله تعالى، فالله أعلم حيث يجعل رسالته. فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ، وأن التدبير للأمور كلها، دينيها ودنيويها، بيد الله وحده. هذا إقناع لهم، من جهة غلطهم في الاقتراح، الذي ليس في أيديهم منه شيء، إن هو إلا ظلم منهم، ورد للحق. وقولهم: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * لولا عرفوا حقائق الرجال، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل، وعظم منزلته عند الله وعند خلقه، لعلموا أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، هو أعظم الرجال قدرا، وأعلاهم فخرا، وأكملهم عقلا، وأغزرهم علما، وأجلهم رأيا، وغزما، وحزما وأكملهم خلقا، وأوسعهم رحمة، وأشدهم شفقة، وأهداهم وأتقاهم. وهو قطب دائرة الكمال، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق. يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه، إلا من ضل وكابر. فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثال ذرة من كماله؟ ومن جرمه ومنتهى حمقه، أن جعل إلهه الذي يعبده، ويدعوه، ويتقرب إليه، صنما، أو شجرا، أو حجرا، لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، وهو كل على مولاه، يحتاج لمن يقوم بمصالحه. فهل هذا، إلا من فعل السفهاء والمجانين؟ فكيف يجعل مثل هذا عظيما؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولكن الذي كفروا لا يعقلون. وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى، في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا * (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) * أي: ليسخر بعضهم بعضا، في الأعمال والحرف، والصنائع. فلو تساوى الناس في الغنى، ولم يحتج بعضهم إلى بعض، لتعطل كثير من مصالحهم ومافعهم. وفيها دليل على أن نعمته الدينية، خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *. * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحم ن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) * يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوي عنده شيئا، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده، التي لا يقدم عليها شيئا، لوسع الدنيا على الذين كفروا، توسيعا عظيما، ولجعل: * (لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج) * أي: درجا من فضة. * (عليها يظهرون) * إلى سطوحهم. * (ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون) * من فضة، ولجعل لهم زخرفا، أي: لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف، وأعطاهم ما يشتهون. ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي، بسبب حب الدنيا، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم. وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا، منغصة، مكدرة، فانية، وأن الآخرة عند الله تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره،
(٧٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 760 761 762 763 764 765 766 767 768 769 770 ... » »»