تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٥٥
* (الله يجتبي إليه من يشاء) * أي: يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته. ومنه، أن اجتبى هذه الأمة، وفضلها على سائر الأمم، واختار لها أفضل الأديان وخيرها. * (ويهدي إليه من ينيب) * هذا السبب الذي من العبد، يتوصل به إلى هداية الله تعالى وهو: إنابته لربه، وانجذاب دواعي قلبه إليه، وكونه قاصدا وجهه. فحسن مقصد العبد، مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها، كما قال تعالى: * (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) *. * (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) * لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم، ونهاهم عن التفرق، أخبرهم أنهم ينبغي لهم أن لا يغتروا بما أنزل الله عليهم من الكتاب. فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع، ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم. فإنهم تباغضوا وتحاسدوا، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة، فوقع الاختلاف. فاحذروا، أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم. * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * أي: بتأخير العذاب القاضي، إلى أجل مسمى * (لقضي بينهم) * ولكن حكمته وحلمه، اقتضى تأخير ذلك عنهم. * (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) * أي: الذين ورثوهم، وصاروا خلفا لهم، ممن ينتسب إلى العلم منهم. * (لفي شك منه مريب) * أي: لفي اشتباه كثير، يوقع في الاختلاف، حيث اختلف سلفهم، بغيا وعنادا، فإن خلفهم، اختلفوا شكا وارتيابا، والجميع، مشتركون في الاختلاف المذموم. * (فلذلك فادع) * أي: فللدين القويم، والصراط المستقيم، الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل رسله، فادع إليك أمتك، وحضهم عليه، وجاهد عليه من لم يقبله. * (واستقم) * بنفسك * (كما أمرت) * أي: استقامة موافقة لأمر الله، لا تفريط ولا إفراط، بل امتثالا لأوامر الله، واجتنابا لنواهيه، على وجه الاستمرار على ذلك. فأمره بتكميل نفسه، بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيره، بالدعوة إلى ذلك. ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر لأمته، إذا لم يرد تخصيص له. * (ولا تتبع أهواءهم) * أي: أهواء المنحرفين عن الدين، من الكفرة أو المنافقين. إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى الله، أو بترك الاستقامة فإنك إن ابتعت أهواءهم، من بعد ما جاءك من العلم، إنك إذا لمن الظالمين. ولم يقل: (ولا تتبع دينهم) لأن حقيقة دينهم، الذي شرعه الله لهم، هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا. * (وقل) * لهم، عند جدالهم ومناظرتهم: * (آمنت بما أنزل الله من كتاب) * أي: لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم، الدال على شرف الإسلام وجلالته، وهمينته على سائر الأديان، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب، أنهم عليه، جزء من الإسلام. وفي هذا، إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان، ببعض الكتب، أو ببعض الرسل دون غيره، فلا يسلم لهم ذلك. لأن الكتاب الذي يدعون إليه، والرسول الذي ينتسبون إليه، من شرطه، أن يكون مصدقا بهذا القرآن، وبمن جاء به. فكتابنا، ورسولنا، لم يأمرانا، إلا بالإيمان بموسى، وعيسى، والتوراة، والإنجيل، التي أخبر بها، وصدق بها، وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته. وأما مجرد التوراة والإنجيل، وموسى، وعيسى، الذين لم يوصفوا لنا، ولم يوافقوا لكتابنا، فلم يأمرنا بالإيمان بهم. وقوله: * (وأمرت لأعدل بينكم) * أي: في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم، يا أهل الكتاب، من العدل بينكم، ومن العدل في الحكم، بين أهل الأقوال المختلفة، من أهل الكتاب وغيرهم، أن يقبل ما معهم من الحق، ويرد ما معهم من الباطل. * (الله ربنا وربكم) * أي: هو رب الجميع، لستم بأحق به منا. * (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) * من خير وشر * (لا حجة بيننا وبينكم) * أي: بعدما تبينت الحقائق، واتضح الحق من الباطل، والهدى من الضلال، لم يبق للجدل والمنازعة محل. لأن المقصود من الجدال، إنما هو بيان الحق من الباطل، ليهتدي الراشد، ولتقوم الحجة على الغاوي. وليس المراد بهذا، أن أهل الكتاب لا يجادلون، كيف والله يقول: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * وإنما المراد ما ذكرنا.
(٧٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 750 751 752 753 754 755 756 757 758 759 760 ... » »»