تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٥٨
في القرابة، أي لأجل القرابة. ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة الإيمان، فإن مودة الإيمان بالرسول، وتقديم محبته على جميع المحاب، بعد محبة الله، فرض على كل مسلم. وهؤلاء طلب منهم زيادة على ذلك، أن يحبوه، لأجل القرابة، لأنه صلى الله عليه وسلم، قد باشر بدعوته أقرب الناس إليه. حتى إنه قيل: إنه ليس في بطون قريش أحد، إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه قرابة. ويحتمل أن المراد إلا مودة الله تعالى، الصادقة، وهي التي يصحبها التقرب إلى الله، والتوسل بطاعته، الدالة على صحتها وصدقها، ولهذا قال: * (إلا المودة في القربى) * أي: في التقرب إلى الله. وعلى كلا القولين، فهذا الاستثناء، دليل على أنه لا يسألكم عليه أجرا بالكلية، إلا أن يكون شيئا يعود نفعه إليهم. فهذا ليس من الأجر في شيء، بل هو من الأجر منه لهم صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: * (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) * وقولهم: (ما لفلان عندك ذنب، إلا أنه محسن إليك). * (ومن يقترف حسنة) * من صلاة، أو صوم، أو حج، أو إحسان إلى الخلق * (نزد له فيها حسنا) * بأن يشرح الله صدره، وييسر أمره، ويكون سببا للتوفيق لعمل آخر، ويزداد بها عمل المؤمن، ويرتفع عند الله، وعند خلقه، ويحصل له الثواب، العاجل والآجل. * (إن الله غفور شكور) * يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت، عند التوبة منها، ويشكر على العمل القليل بالأجر الكثير. فبمغفرته يغفر الذنوب، ويستر العيوب، وبشكره يتقبل الحسنات، ويضاعفها، أضعافا كثيرة. * (أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور) * يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، جرأة منهم وكذبا: * (افترى على الله كذبا) * فرموك بأشنع الأمور وأقبحها، وهو: الافتراء على الله، بادعاء النبوة والنسبة إلى الله ما هو بريء منه، وهم يعلمون صدقك وأمانتك. فكيف يتجرؤون على هذا الكذب الصراح؟ بل تجرؤوا بذلك على الله تعالى. فإنه قدح في الله، حيث مكنك من هذه الدعوة العظيمة، المتضمنة على موجب زعمهم أكبر الفساد في الأرض، حيث مكنه الله، من التصريح بالدعوة، ثم بنسبتها إليه، ثم يؤيده بالمعجزات الظاهرات، والأدلة القاهرات، والنصر المبين، والاستيلاء على من خالفه. وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها، وهو أن يختم على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل إليه خير. وإذا ختم على قلبه، انحسم الأمر كله، وانقطع. فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول، وأقوى شهادة من الله له على ما قال، ولا يوجد شهادة أعظم منها ولا أكبر. ولهذا، من حكمته ورحمته، وسنته الجارية، أنه يمحو الباطل ويزيله، وإن كان له صولة في بعض الأوقات، فإن عاقبته الاضمحلال. * (ويحق الحق بكلماته) * الكونية، التي لا تبدل ولا تغير، ووعده الصادق، وكلماته الدينية التي تحقق ما شرعه من الحق، وتثبته في القلوب، وتبصر أولي الألباب. حتى إن من جملة إحقاقه تعالى الحق، أن يقيض له الباطل ليقاومه. فإذا قاومه، صال عليه الحق ببراهينه وبيناته، فظهر من نوره وهداه، ما به يضمحل الباطل، وينقمع، ويتبين بطلانه لكل أحد، ويظهر الحق كل الظهور لكل أحد. * (إنه عليم بذات الصدور) * أي: بما فيها، وما اتصفت به، من خير وشر، وما أكنته ولم تبده. * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد * ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ول كن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير * وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد) * هذا بيان لكمال كرم الله تعالى، وسعة جوده، وتمام لطفه، إذ * (يقبل التوبة) * الصادرة * (عن عباده) * حين يقلعون عن ذنوبهم، ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها، بعدما انعقدت سببا للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية. * (ويعفو عن السيئات) * ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات. ويعود التائب عنده كريما، كأنه ما عمل سوءا قط، ويحبه، ويوفقه لما يقربه إليه. ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة، إذا كان القصد منها، بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله، ختم هذه الآية بقوله: * (ويعلم ما تفعلون) *. فالله تعالى، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه، والتوبة من التقصير، فانقسموا بحسب الاستجابة له إلى قسمين: مستجيبين وصفهم بقوله: * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * أي: يستجيبون لربهم، لما دعاهم إليه وينقادون له، ويلبون دعوته، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح، يحملهم على ذلك. فإذا استجابوا له، شكر الله لهم، وهو الغفور الشكور. * (ويزيدهم من فضله) * توفيقا ونشاطا على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر، زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم. وأما غير المستجيبين لله * (و) * هم المعاندون * (الكافرون) * به وبرسله، فإنهم * (لهم عذاب شديد) * في الدنيا والآخرة. ثم ذكر أن من لطفه بعباده، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة، تضر بأديانهم فقال: * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * أي: لغفلوا
(٧٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 753 754 755 756 757 758 759 760 761 762 763 ... » »»