تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٣٧
فبينكم وبين حل قتله، مفاوز تنقطع بها أعناق المطي. ثم قال لهم مقالة عقلية، تقنع كل عاقل، بأي حالة قدرت فقال: * (وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) * أي: موسى بين أمرين، إما كذاب في دعواه، أو صادق فيها. فإن كان كاذبا، فكذبه عليه، وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر، حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه. وإن كان صادقا، وقد جاءكم بالبينات، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه، عذبكم الله عذابا في الدنيا، وعذابا في الآخرة، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو عذاب الدنيا. وهذا من حسن عقله، ولطف دفعه عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، وجعل الأمر دائرا بين تينك الحالتين، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم. ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه إلى أمر أعلى من ذلك، وبيان قرب موسى من الحق فقال : * (إن الله لا يهدي من هو مسرف) * أي: متجاوز الحد، بترك الحق والإقبال على الباطل. * (كذاب) * بنسبته ما أسرف فيه إلى الله، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب، لا في مدلوله، ولا في دليله، ولا يوفقه للصراط المستقيم. أي: وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية، والخوارق السماوية. فالذي اهتدى هذا الهدى، لا يمكن أن يكون مسرفا، ولا كاذبا. وهذا دليل على كمال علمه وعقله، ومعرفته بربه. ثم حذر قومه، ونصحهم، وخوفهم عذاب الآخرة ونهاهم عن الاغترار بالملك الظاهر فقال: * (يا قوم لكم الملك اليوم) * أي: في الدنيا * (ظاهرين في الأرض) * على رعيتكم، تنفذون فيهم ما شئتم من التدبير. فهبكم حصل لكم ذلك وتم، ولن يتم، * (فمن ينصرنا من بأس الله) * أي: عذابه * (إن جاءنا) *؟ وهذا من حسن دعوته، حيث جعل الأمر مشتركا، بينه وبينهم بقوله: * (فمن ينصرنا) * وقوله: * (إن جاءنا) * ليفهمهم أنه ينصح لهم، كما ينصح لنفسه، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه. * (قال فرعون) * معارضا له في ذلك، ومغررا لقومه أن يتبعوا موسى: * (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * وصد في قوله: * (ما أريكم إلا ما أرى) *، ولكن ما الذي رأى؟ رأى أن يستخف قومه فيتابعوه، ليقيم بهم رياسته، ولم ير الحق معه، بل رأى الحق مع موسى، وجحد به، مستيقنا له. وكذب في قوله: * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * فإن هذا، قلب للحق. فلو أمرهم باتباعه، اتباعا مجردا على كفره وضلاله، لكان الشر أهون. ولكنه أمرهم باتباعه، وزعم أن في اتباعه، اتباع الحق، وفي اتباع الحق، اتباع الضلال. * (وقال الذي آمن) * مكررا دعوة قومه، غير آيس من هدايتهم، كما هي حالة الدعاة إلى الله تعالى، لا يزالون يدعون إلى ربهم، ولا يردهم عن ذلك راد، ولا يثنيهم عتو من دعوه، عن تكرار الدعوة، فقال لهم: * (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) * يعني الأمم المكذبين، الذين تحزبوا على أنبيائهم، واجتمعوا على معارضتهم. ثم بينهم فقال: * (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم) * أي: مثل عادتهم في الكفر والتكذيب، وعادة الله فيهم، بالعقوبة العاجلة في الدنيا، قبل الآخرة. * (وما الله يريد ظلما للعباد) * فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه، ولا جرم أسلفوه. ولما خوفهم العقوبات الدنيوية، خوفهم العقوبات الأخروية، فقال: * (يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) * أي: يوم القيامة، حين ينادي أهل الجنة أهل النار: * (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) * إلى آخر الآيات. * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) *. وحين ينادي أهل النار مالكا * (ليقض علينا ربك) *، فيقول: * (إنكم ماكثون) *. وحين ينادون ربهم: * (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) *. فيجيبهم: * (اخسأوا فيها ولا تكلمون) *. وحين يقال للمشركين: * (ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) *. فخوفهم رضي الله عنه، هذا اليوم المهول، وتوجع لهم أن قاموا على شركهم بذلك. ولهذا قال: * (يوم تولون مدبرين) * أي: قد ذهب بكم إلى النار * (ما لكم من الله من عاصم) * لا من أنفسكم قوة، تدفعون بها عذاب الله، ولا ينصركم من دونه من أحد * (يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر) *. * (ومن يضلل الله فما له من هاد) * لأن الهدى بيد الله تعالى. فإذا منع عبده الهدى، لعلمه أنه غير لائق به، لخبثه، فلا سبيل إلى هدايته. * (ولقد جاءكم يوسف) * بن يعقوب عليهما السلام * (من قبل) * إتيان موسى، بالبينات الدالة على صدقه، وأمركم بعبادة ربكم وحده لا شريك له. * (فما
(٧٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 732 733 734 735 736 737 738 739 740 741 742 ... » »»