المحض قبل إيجادهم، ثم أماتهم بعدما أوجدهم. * (وأحييتنا اثنتين) * الحياة الدنيا، والحياة الأخرى. * (فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * أي: تحسروا وقالوا ذلك، فلم يفد ولم ينجع، ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة، فقيل لهم: * (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده) * أي: دعي لتوحيده، وإخلاص العمل له، ونهي عن الشرك به * (كفرتم) * به، واشمأزت لذلك قلوبكم، ونفرتم غاية النفور. * (وإن يشرك به تؤمنوا) * أي: هذا الذي أنزلكم هذا المنزل، وبوأكم هذا المقيل والمحل، أنكم تكفرون بالإيمان، وتؤمنون بالكفر. ترضون بما هو شر وفساد في الدنيا والآخرة، وتكرهون ما هو خير وصلاح، في الدنيا والآخرة. تؤثرون سبب الشقاوة، والذل، والغضب، وتزهدون بما هو سبب الفوز والفلاح والظفر * (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) *. * (فالحكم لله العلي الكبير) * العلي: الذي له العلو المطلق، من جميع الوجوه، علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر. ومن علو قدره، كمال عدله تعالى، وأنه يضع الأشياء مواضعها، ولا يساوي بين المتقين والفجار. * (الكبير) * الذي له الكبرياء والعظمة والمجد، في أسمائه، وصفاته، وأفعال، المتنزه عن كل آفة، وعيب، ونقص. فإذا كان الحكم له تعالى، وقد حكم عليكم بالخلود الدائم، فحكمه لا يغير ولا يبدل. * (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب * فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون * رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما ك سبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) * يذكر تعالى نعمه العظيمة، على عباده، بتبيين الحق من الباطل، بما يري عباده من آياته النفسية، والآفاقية، والقرآنية، الدالة على كل مطلوب مقصود، الموضحة للهدى من الضلال، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها، والمتأمل لها، أدنى شك في معرفة الحقائق. وهذا من أكبر نعمه على عباده، حيث لم يبق الحق مشتبها، ولا الصواب ملتبسا. بل نوع الدلالات، ووضح الآيات، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. وكلما كانت المسائل أجل وأكبر، كانت الدلائل عليها أكثر وأيسر. فانظر إلى التوحيد، لما كانت مسألته من أكبر المسائل، بل أكبرها، كثرت الأدلة عليها العقلية والنقلية، وتنوعت، وضرب الله لها الأمثال، وأكثر لها من الاستدلال. ولهذا ذكرها في هذا الموضع، ونبه على جملة من أدلتها، فقال: * (فادعوا الله مخلصين له الدين) *. ولما ذكر أنه يري عباده آياته، نبه على آية عظيمة فقال: * (وينزل عليكم من السماء رزقا) * أي: مطرا، به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم، وذلك يدل على أن النعم كلها منه. فمنه نعم الدين، وهي المسائل الدينية، والأدلة عليها، وما يتبع ذلك، من العمل بها. والنعم الدنيوية كلها، كالنعم الناشئة عن الغيث، الذي تحيا به البلاد والعباد. وهذا يدل دلالة قاطعة، أنه وحده هو المعبود، الذي يتعين إخلاص الدين له، كما أنه وحده المنعم. * (وما يتذكر) * بالآيات، حين يذكر بها * (إلا من ينيب) * إلى الله تعالى، بالإقبال على محبته، وخشيته، وطاعته، والتضرع إليه. فهذا الذي ينتفع بالآيات، وتصير رحمة في حقه، ويزداد بها بصيرة. ولما كانت الآيات، تثمر التذكر، والتذكر يوجب الإخلاص لله، رتب الأمر على ذلك بالفاء الدالة على السببية فقال: * (فادعوا الله مخلصين له الدين) *. وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة. والإخلاص، معناه: تخليص القصد لله تعالى، في جميع العبادات، الواجبة والمستحبة، حقوق الله، وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى، في كل ما تدينونه به، وتتقربون به إليه. * (ولو كره الكافرون) * لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين، يكرهون الإخلاص لله وحده، غاية الكراهة كما قال تعالى: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) *. ثم ذكر من جلاله وكماله، ما يقتضي إخلاص العبادة له فقال: * (رفيع الدرجات ذو العرش) * أي: العلي الأعلى، الذي استوى على العرش، واختص به، وارتفعت درجاته ارتفاعا باين به مخلوقاته، وارتفع به قدره، وجلت أوصافه، وتعالت ذاته، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي الطاهر المطهر وهو الإخلاص، الذي يرفع درجات أصحابه، ويقربهم إليه، ويجعلهم فوق خلقه. ثم ذكر نعمته على عباده بالرسالة والوحي فقال: * (يلقي الروح) * أي: الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد. فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش، فالروح والقلب، بدون روح الوحي، لا يصلح ولا يفلح، فهو تعالى * (يلقي الروح من أمره) * الذي فيه
(٧٣٤)