أفصح الألفاظ، وأوضحها، وأن معانيه، أجل المعاني؛ لأنه أحسن الحديث، في لفظه ومعناه، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة، ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم، هذا هو المراد بالتشابه في هذا الموضع. وأما في قوله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) * فالمراد بها، التي تشتبه على فهوم كثير من الناس، ولا يزول هذا الاشتباه، إلا بردها إلى المحكم، ولهذا قال: * (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) * فجعل التشابه لبعضه. وهنا جعله كله متشابها، أي: في حسنه، لأنه قال: * (أحسن الحديث) * وهو سورة وآيات، والجميع يشبه بعضه بعضا، كما ذكرنا. * (مثاني) * أي: تثنى في القصص والأحكام، والوعد والوعيد، وصفات أهل الخير، وصفات أهل الشر، وتثنى فيه أسماء الله وصفاته. وهذا من جلالته، وحسنه، فإنه تعالى، لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، وأن تلك المعاني للقلوب، بمنزلة الماء لسقي الأشجار. فكما أن الأشجاء كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت، بل ربما تلفت، وكلما تكرر سقيها حسنت، وأثمرت أنواع الثمار النافعة. فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلام الله تعالى عليه، وأنه لو تكرر عليه المعنى مدة واحدة في جميع القرآن، لم يقع منه موقعا، ولم تحصل النتيجة منه. ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم، اقتداء بما هو تفسير له. فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع. بل كل موضع تجد تفسيره، كامل المعنى، غير مراع لما مضى، مما يشبهه. وإن كان بعض المواضع، يكون أبسط من بعض، وأكثر فائدة، وهكذا ينبغي لقارىء القرآن، المتدبر لمعانيه، أن لا يدع التدبر في جميع المواضع منه. فإنه يحصل له بسبب ذلك، خير كثير، ونفع غزير. ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة، أثر في قلوب أولي الألباب المهتدين فلهذا قال تعالى: * (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) * لما فيه من التخويف والترهيب المزعج. * (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * أي: عند ذكر الرجاء والترغيب. فهو تارة يرغب لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر. * (ذلك) * الذي ذكره الله من تأثير القرآن فيهم. * (هدى لله) * أي: هداية منه لعباده، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم. * (يهدي به) * أي: القرآن الذي وصفناه لكم. * (هدى الله) * الذي لا طريق يوصل إلى الله إلا منه * (يهدي به من يشاء من عباده) * ممن حسن قصده، كما قال تعالى: * (يهدي به الله من اتبع رضوان سبل السلام) *. * (ومن يضلل الله فما له من هاد) * لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه والتوفيق بالإقبال على كتابه. فإذا لم يحصل هذا، فلا سبيل إلى الهدى، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء المهين. * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون * كذب الذين من قبلهم فأتاهم الع ذاب من حيث لا يشعرون * فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) * أي: هل يستوي هذا الذي هداه الله، ووفقه لسلوك الطريق والموصلة لدار كرامته. ومن كان في الضلال، واستمر على عناده، حتى قدم القيامة، فجاءه العذاب العظيم فجعل يتقي بوجهه الذي هو أشرف الأعضاء، وأدنى شيء من العذاب يؤثر فيه؛ فهو يتقي فيه سوء العذاب لأنه قد غلت يداه ورجلاه. * (وقيل للظالمين) * أنفسهم، بالكفر والمعاصي، وتوبيخا وتقريعا: * (ذوقوا ما كنتم تكسبون) *. * (كذب الذين من قبلهم) * من الأمم كما كذب هؤلاء. * (فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * جاءهم في غفلة، أو نهار، أو هم قائلون. * (فأذاقهم الله) * بذلك العذاب * (الخزي في الحياة الدنيا) * فافتضحوا عند الله، وعند خلقه. * (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) * فليحذر هؤلاء من المقام على التكذيب، فيصيبهم ما أصاب أولئك من التعذيب. * (ولقد ضربنا للناس في ه ذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون * ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * يخبر تعالى، أنه ضرب في القرآن من جميع الأمثال، أمثال أهل الخير، وأمثال أهل الشر، وأمثال التوحيد والشرك، وكل مثل يقرب حقائق الأشياء، والحكمة في ذلك * (لعلهم يتذكرون) * عندما نوضح لهم الحق فيعلمون، ويعملون. * (قرآنا عربيا غير ذي عوج) * أي: جعلناه قرآنا عربيا، واضح الألفاظ،
(٧٢٣)