هو الكامل من كل وجه، الذي لا مثيل له، فكذلك كلامه كامل من كل وجه، لا مثيل له، فهذا وحده، كاف في وصف القرآن، دال على مرتبته. ولكنه مع هذا زاد بيانا، لكماله، بمن نزل عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب، وبما نزل به، وهو الحق. فنزل بالحق، الذي لا مرية فيه، لإخراج الخلق من الظلمات إلى النور. ونزل مشتملا على الحق في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة. فكل ما دل عليه، فهو أعظم أنواع الحق، من جميع المطالب العلمية، وما بعد الحق إلا الضلال. ولما كان نازلا من الحق، مشتملا على الحق لهداية الخلق، على أشرف الخلق، عظمت فيه النعمة، وجلت، وجب القيام بشكرها، وذلك بإخلاص الدين الله، فلهذا قال: * (فاعبد الله مخلصا له الدين) * أي: أخلص لله تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة، والشرائع الباطنة: الإسلام، والإيمان، والإحسان بأن تفرد الله وحده بها، وتقصد بها وجهه، لا غير ذلك من المقاصد. * (ألا لله الدين الخالص) * هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبينا أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص، والصافي من جميع الشوائب. فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه، وأمرهم به؛ لأنه متضمن للتأله لله في حبه، وخوفه، ورجائه، والاإنابة إليه، وتحصيل مطالب عباده. وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها، دون الشرك به في شيء من العبادة. فإن الله بريء منه، وليس لله فيه شيء، فهو أغنى الشركاء عن الشرك. وهو مفسد للقلوب والأرواح، والدنيا والآخرة مشق، للنفوس غاية الشقاء. فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص، نهى عن الشرك به، وأخبر بذم من أشرك به فقال: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * أي: يتولونهم بعبادتهم ودعائهم، معتذرين عن أنفسهم وقائلين: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * أي: لترفع حوائجنا لله، وتشفع لنا عنده. وإلا، فنحن نعلم أنها، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئا. أي: فهؤلاء، قد تركوا ما أمر الله به من الإخلاص، وتجرؤوا على أعظم المحرمات، وهو الشرك، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء، الملك العظيم، بالملوك. وزعموا بعقولهم الفاسدة، ورأيهم السقيم، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء، وشفعاء، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويستعطفونهم عليهم، ويمهدون لهم الأمر في ذلك أن الله تعالى كذلك. وهذا القياس من أفسد الأقيسة، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم، عقلا، ونقلا، وفطرة فإن الملوك، إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم، لأنهم لا يعلمون أحوالهم. فيحتاجون إلى من يعلمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة. فيحتاج من يعطفه عليهم ويسترحمه لهم، ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء، ويخافون منهم، فيقضون حوائج من توسطوا لهم مراعاة لهم، ومداراة لخواطرهم. وهم أيضا فقراء، قد يمنعون، لما يخشون من الفقر. وأما الرب تعالى، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها ، الذي لا يحتاج إلى من يخبره بأحوال رعيته وعباده. وهو تعالى، أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خلقه، يجعله راحما لعباده، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم. وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته. وهو يريد من مصالحهم، ما لا يريدونه لأنفسهم. وهو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، الذي لو اجتمع الخلق في أولهم وآخرهم في صعيد واحد، فسألوه، فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى، لم ينقصوا من غناه شيئا، ولم ينقصوا مما عنده، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط. وجميع الشفعاء يخافونه، فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه، وله الشفاعة كلها. فبهذه الفروق، يعلم جهل المشركين به، وسفههم العظيم، وشدة جرائتهم عليه. ويعلم أيضا، الحكمة في كون الشرك لا يغفره الله تعالى؛ لأنه يتضمن القدح في الله تعالى. ولهذا قال حاكما بين الفريقين، المخلصين والمشركين، وفي ضمنه التهديد للمشركين: * (إن الله يحكم بينهما فيما هم فيه يختلفون) *. وقد علم أن حكمة الله أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم، أن من
(٧١٨)