تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧١٢
* (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم. فقال: * (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض) * لأن الظلم من صفة النفوس. * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فإن ما معهم من الإيمان والعلم الصالح، يمنعهم من الظلم. * (وقليل ما هم) * كما قال تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) *. * (وظن داود) * حين حكم بينهما * (أنما فتناه) * أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه. * (فاستغفر ربه) * لما صدر منه * (وخر راكعا) * أي: ساجدا * (وأناب) * لله تعالى بالتوبة النصوح والعبادة. * (فغفرنا له ذلك) * الذي صدر منه، وأكرمه الله بأنواع الكرامات فقال: * (وإن له عندنا لزلفى) * أي: منزلة عالية، وقربة منا * (وحسن مآب) * أي: مرجع. وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف. وإنما الفائدة، ما قصه الله علينا، من لطفه به، وتوبته، وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها. * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية. * (فاحكم بين الناس بالحق) * أي: العدل. وهذا لا يتمكن منه، إلا بعلم بالواجب، وعلم بالواقع، وقدرة على تنفيذ الحق. * (ولا تتبع الهوى) * فتميل مع أحد، لقرابة، أو صداقة، أو محبة، أو بغض للآخر * (فيضلك) * الهوى * (عن سبيل الله) * ويخرجك عن الصراط المستقيم. * (إن الذين يضلون عن سبيل الله) * خصوصا المتعمدين منهم. * (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) * (أي: بغفلتهم عن يوم الجزاء). فلو ذكروه، ووقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن. * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار * كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) * يخبر تعالى عن تمام حكمته، في خلقه السماوات والأرض، وأنه لم يخلقهما باطلا، أي: عبثا ولعبا، من غير فائدة ولا مصلحة. * (ذلك ظن الذين كفروا) * بربرهم، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله. * (فويل للذين كفروا من النار) * فإنها التي تأخذ الحق منهم، وتبلغ منهم كل مبلغ. وإنما خلق الله السماوات والأرض بالحق وللحق، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته، وسعة سلطانه، وأنه تعالى وحده المعبود، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السماوات والأرض، وأن البعث حق، وسيفصل الله بين أهل الخير والشر. ولا يظن الجاهل بحكمة الله، أن يسوي الله بينهما في حكمه، ولهذا قال: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتفين كالفجار) * هذا غير لائق بحكمتنا وحكمنا. * (كتاب أنزلناه إليك مبارك) * فيه خير كثير، وعلم غزير. فيه كل هدى من ضلالة وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات. وفيه كل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجل كتاب طرق العالم، منذ أنشأه الله. * (ليدبروا آياته) * أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها. فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره. وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر، أفضل من سرعة التلاوة، التي لا يحصل بها هذا المقصود. * (وليذكر أولوا الألباب) * أي: أولوا العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب. فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله، يحصل له التذكر والانتفاع، بهذا الكتاب. * (ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق * ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب * قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخآء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * ه ذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * لما أثنى الله تعالى على داود، وذكر ما جرى له ومنه، أثنى على ابنه سليمان عليهما السلام فقال: * (ووهبنا لداود سليمان) * أي: أنعمنا به عليه، وأقررنا به عينه. * (نعم العبد) * سليمان عليه السلام، فإنه اتصف بما يوجب المدح، وهو * (إنه أواب) * أي: رجاع إلى الله في جميع أحواله، بالتأله والإنابة، والمحبة والذكر والدعاء والتضرع، والاجتهاد في مرضاة الله وتقديمها على كل شيء. ولهذا، لما عرضت الخيل الجياد الصافنات أي: التي وصفها الصفون، وهو رفع إحدى قوائمها عند الوقوف، وكان لها منظر رائق، وجمال معجب، وخصوصا للمحتاج إليها كالملوك. فما زالت تعرض عليه، حتى غابت الشمس في الحجاب، فألهته عن صلاة المساء وذكره. فقال ندما على ما مضى منه، وتقربا إلى الله بما ألهاه عن ذكره، وتقديما لحب الله على حب غيره * (إني أحببت حب الخير) * وضمن (أحببت) معنى (آثرت) أي: آثرت حب الخير، الذي هو المال عموما، وفي هذا الموضع المراد: الخيل * (عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) *
(٧١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 707 708 709 710 711 712 713 714 715 716 717 ... » »»