تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧١٧
ثم ذكر اختصام الملأ الأعلى فقال: * (إذ قال ربك للملائكة) * على وجه الإخبار * (إني خالق بشرا من طين) * أي: مادته من طين * (فإذا سويته) * أي: سويت جسمه، وثم * (ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) *. فوطن الملائكة الكرام أنفسهم على ذلك، حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه، امتثالا لربهم، وإكراما لآدم عليه السلام. فلما تم خلقه في بدنه وروحه، وامتحن الله آدم والملائكة في العلم، وظهر فضله عليهم، أمرهم الله بالسجود. * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) * لم يسجد * (استكبر) * عن أمر ربه، واستكبر على آدم * (وكان من الكافرين) * في علم الله تعالى. * (قال) * الله موبخا ومعاتبا: * (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * أي: شرفته، وكرمته، واختصصته بهذه الخصيصة، التي اختص بها عن الخلق، وذلك يقتضي عدم التكبر عليه. * (استكبرت) * في امتناعك * (أم كنت من العالين) * (أي: ممن علوت على العالمين). * (قال) * إبليس معارضا لربه، ومناقضا: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *. وبزعمه أن عنصر النار خير من عنصر الطين، وهذا من القياس الفاسد، فإن عنصر النار، مادة الشر والفساد، والعلو والطيش، والخفة. وعنصر الطين، مادة الرزانة، والتواضع، وإخراج أنواع الأشجار والنباتات، وهو يغلب النار، ويطفئها. والنار، تحتاج إلى مادة تقوم بها، والطين قائم بنفسه. فهذا قياس شيخ القوم، الذي عارض به الأمر الشناهي، من الله، قد تبين غاية بطلانه وفساده. فما بالك بأقيسة التلاميذ، الذين عارضوا الحق بأقيستهم؟ فإنها كلها، أعظم بطلانا، من هذا القياس. * (قال) * الله له: * (فأخرج منها) * أي: من السماء والمحل الكريم. * (فإنك رجيم) * أي: مبعد مدحور. * (وإن عليك لعنتي) * أي: طردي وإبعادي * (إلى يوم الدين) * دائما أبدا. * (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) * لشدة عداوته لآدم وذريته، ليتمكن من إغواء من قدر الله أن يغويه. * (قال) * الله مجيبا لدعوته، حيث اقتضت حكمته ذلك: * (فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) * حين تستكمل الذرية، يتم الامتحان. فلما علم أنه منظر، بادي ربه، من خبثه، بشدة العداوة لربه ولأدم وذريته فقال: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * (أي: بعظمتك وجلالك). يحتمل أن الباء للقسم، وأنه أقسم بعزة الله، ليغوينهم كلهم أجمعين. * (إلا عبادك منهم المخلصين) * (أي: هم الذين أخلصهم الله لطاعته وعصمهم من الغواية لكمال إيمانهم، وبذلهم أقصى ما في وسعهم في طاعة ربهم). علم (إبليس) أن الله سيحفظهم من كيده. ويحتمل أن الباء للاستعانة، وأنه لما علم أنه عاجز من كل وجه، وأنه لا يضل أحدا إلا بمشيئة الله تعالى، استعان بعزة الله، على إغواء ذرية آدم، هذا، وهو عدو الله حقا. ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون، المقرون لك بكل نعمة، ذرية من شرفته وكرمته. فنستعين بعزتك العظيمة، وقدرتك، ورحمتك الواسعة لكل مخلوق، ورحمتك التي أوصلت إلينا بها، ما عنا صرفت من النقم، أن تعيننا على محاربته وعداوته، والسلامة من شره، وشركه. ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا، ونؤمن بوعدك الذي قلنا لنا: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * فقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا. * (إنك لا تخلف المعياد) *. * (84 85) * (قال) * (الله تعالى) * (فالحق والحق أقول) * أي: الحق وصفي، والحق قولي * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * (من ذرية آدم) * (قل ما أسألكم عليه) * أي: على دعائي إياكم * (من أجر وما أنا من المتكلفين) * أدعي أمرا، ليس لي، وأقفوا ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إلي. * (إن هو) * أي: ما هذا الوحي والقرآن * (إلا ذكر للعالمين) * به كل ما ينفعهم، من مصالح دنياهم، فيكون شرفا ورفعة للعالمين به، وإقامة حجة على المعاندين. فهذه السورة العظيمة، مشتملة على الذكر الحكيم، والنبأ العظيم، وإقامة الحجج والبراهين، على من كذب بالقرآن وعارضه، وكذب من جاء به، والإخبار عن عباد الله المخلصين، وجزاء المتقين والطاغين. فلهاذ أقسم في أولها بأنه ذو الذكر، ووصفه في آخرها، بأنه ذكر للعالمين. وأكثر التذكير بها، فيما بين ذلك كقوله: * (واذكر عبدنا) * * (واذكر عبادنا) * * (رحمة من عندنا وذكرى) * * (هذا ذكر) *. اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، نسيان غفلة، ونسيان ترك. * (ولتعلمن نبأه) * أي: خبره * (بعد حين) * وذلك حين يقع عليهم العذاب وتنقطع عنهم الأسباب. تم تفسير سورة ص. سورة الزمر * (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب ك فار) * يخبر تعالى عن عظمة القرآن، وجلالة من تكلم به، ونزل منه. وأنه نزل من الله العزيز الحكيم. أي الذي وصفه الألوهية للخلق، وذلك لعظمته وكماله والعزة التي قهر بها كل مخلوق، وذل له كل شيء، والحكمة في خلقه وأمره. فالقرآن نازل ممن هذا وصفه، والكلام وصف للمتكلم، والوصف يتبع الموصوف. فكما أن الله تعالى
(٧١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 712 713 714 715 716 717 718 719 720 721 722 ... » »»