(أي: غابت عن عينيه). * (ردوها علي) * فردوها * (فطفق) * أي: (شرع) فيها * (مسحا بالسوق والأعناق) * أي جعل يعقرها بسيفه، في سوقها وأعناقها. * (ولقد فتنا سليمان) * أي: ابتليناه واختبرناه، بذهاب ملكه وانفصاله عنه، بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية * (وألقينا على كرسيه جسدا) * أي: شيطانا قضى الله وقدر أن يجلس على كرسي ملكه، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان * (ثم أناب) * سليمان إلى الله تعالى وتاب. * (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) *. فاستجاب الله له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغروضون له في البحر، يستخرجون الدر والحلي، ومن عصاه منهم، قرنه في الأصفاد وأوثقه. وقلنا له: * (هذا عطاءنا) * فقر به عينا * (فامنن) * على من شئت. * (أو أمسك) * من شئت * (بغير حساب) * أي: لا حرج عليك في ذلك ولا حساب، لعلمه تعالى بكمال عدله، وحسن أحكامه. ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة، بل له في الآخرة خير عظيم. ولهذا قال: * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * أي: هو من المقربين عند الله المكرمين بأنواع الكرامات لله. فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السلام فمنها: أن الله تعالى، يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أخبار من قبله، ليثبت فؤاده، وتطمئن نفسه. ويذكر من عبادتهم وشدة صبرهم، وإنابتهم، ما يشوقه إلى منافستهم، والتقرب إلى الله، الذي تقربوا له، والصبر على أذى قومه. ولهذا في هذا الموضع لما ذكر الله ما ذكر، من أذية قومه وكلامهم فيه، وفيما جاء به، أمره بالصبر، وأن يذكر عبده داود، فيتأسى به. ومنها: أن الله تعالى، يمدح ويحب القوة في طاعته، قوة القلب والبدن. فإنه يحصل منها، من آثار الطاعة وحسنها وكثرتها، ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوة. وأن العبد، ينبغي له تعاطي أسبابها، وعدم الركون إلى الكسل، والبطالة المخلة بالقوة، المضعفة للنفس. ومنها: أن الرجوع إلى الله في جميع الأمور، من أوصاف أنبياء الله، وخواص خلقه، كما أثنى الله على داود وسليمان بذلك. فليقتد بهما المقتدون، وليهتد بهداهم السالكون * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *. ومنها: ما أكرم الله به نبيه داود، عليه السلام، من حسن الصوت العظيم، الذي جعل الله بسببه الجبال الصم، والطيور البهم، يجاوبنه إذا رجع صوته بالتسبيح، ويسبحن معه بالعشي والإشراق. ومنها: أن من أكبر نعم الله على عبده، أن يرزقه العلم النافع، ويعرف الحكم والفصل بين الناس، كما امتن الله به على عبده داود عليه السلام. ومنها: اعتناء الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه، عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم، وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور، ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى، كما جرى لدواد وسليمان عليهما السلام. ومنها: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى، لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك. وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من المعاصي، ولكن الله يتداركهم ويبادرهم بلطفه. ومنها: أن داود عليه السلام، كان في أغلب أحواله ملازما محرابه، لخدمة ربه، ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب؛ لأنه كان إذا خلا في محرابه، لا يأتيه أحد. فلم يجعل كل وقته للناس، مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام. بل جعل له وقتا، يخلو فيه بربه، وتقر عينه بعبادته، وتعينه على الإخلاص في جميع أموره. ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب، في الدخول على الحكام وغيرهم. فإن الخصمين لما دخلا على داود، في حالة غير معتادة، ومن غير الباب المعهود، فزع منهم، واشتد عليه ذلك، ورآه غير لائق بالحال. ومنها: أنه لا يمنع لحاكم من الحكم بالحق، سوء أدب الخصم، وفعله ما لا ينبغي. ومنها: كمال حلم داود عليه السلام، فإنه ما غضب عليهما، حين جاءاه بغير استئذان، وهو الملك، ولا انتهرهما، ولا وبخهما. ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه (أنت ظلمتني) أو (يا ظالم) أو (باغ علي) ونحو ذلك لقولهما: * (خصمان بغى بعضنا على بعض) *. ومنها: أن الموعوظ والمنصوح، ولو كان كبير القدر، جليل العلم، إذا نصحة أحد، أو وعظه، لا يغضب، ولا يشمئز، بل يبادره بالقبول والشكر. فإن الخصمين نصحا داود، فلم يشمئز، ولم يغضب، ولم يثنه ذلك عن الحق، بل حكم بالحق الصرف. ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب، وكثرة التعلقات الدنيوية المالية، موجبة للتعادي بينهم، وبغي بعضهم على بعض، وأنه لا يرد عن ذلك، إلا استعمال تقوى الله، والصبر على الأمور، بالإيمان والعمل الصالح، وأن هذا من أقل شيء من الناس. ومها: أن الاستغفار والعبادة خصوصا الصلاة، مكفرات للذنوب، فإن الله رتب مغفرة ذنب داود، على استغفاره وسجوده. ومنها: إكرام الله لعبده داود وسليمان، بالقرب منه، وحسن الثواب، وأن لا يظن أن ما جرى لهما، منقص لدرجتهما عند الله تعالى. وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين، أنه إذا غفر لهم، وأزال أثر ذنوبهم، أزال الآثار المترتبة عليه كلها، حتى ما يقع في
(٧١٣)