تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٩٣
من الكتب، عادمين الرسل، قد عمتهم الجهالة، وغمرتهم الضلالة. فأرسل الله إليهم رسولا من أنفسهم، يزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. فينذر العرب الأميين، ومن لحق بهم من كل أمي. ويذكر أهل الكتب. بما عندهم من الكتب، فنعمة الله به على العرب خصوصا، وعلى غيرهم عموما. ولكن هؤلاء الذين بعثت لإنذارهم، بعدما أنذرتهم، انقسموا قسمين: قسم رد لما جئت به، ولم يقبل النذارة، وهم الذين قال الله فيهم * (لقد حق القول على أكثر فهم لا يؤمنون) * أي: نفذ فيهم القضاء والمشيئة، أنهم لا يزالوا في كفرهم وشركهم. وإنما حق عليهم القول، وبعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم. وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم فقال: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * هي جمع (غل) و (الغل) ما يغل به العنق، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل. وهذه الأغلال، التي في الأعناق، عظيمة * (فهي) * قد وصلت * (إلى الأذقان) * قد رفعت رؤوسهم إلى فوق * (فهم مقمحون) * أي: رافعوا رؤوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم، فلا يستطيعون أن يخفضوها. * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) * أي: حاجزا يحجزهم عن الإيمان. * (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * قد غمرهم الجهل والشقاء، من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة. * (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * وكيف يأمن من طبع على قلبه، ورأى الحق باطلا، والباطل حقا؟ والقسم الثاني: الذين قبلوا النذارة، وقد ذكرهم بقوله: * (إنما تنذر) * أي: إنما تنفع نذارتك، ويتعظ بنصحك * (من اتبع الذكر) * أي: من قصده اتباع الحق، وما ذكر به * (وخشي الرحمن بالغيب) * أي: من اتصف بهذين الأمرين، القصد الحسن في طلب الحق، وخشية الله تعالى، فهم الذين ينتفعون برسالتك، ويزكون بتعليمك. ومن وفق لهذين الأمرين * (فبشره بمغفرة) * لذنوبه * (وأجر كريم) * لأعماله الصالحة، ونيته الحسنة. * (إنا نحن نحيي الموتى) * أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال. * (ونكتب ما قدموا) * من الخير والشر، وهو: أعمالهم التي عملوها وباشروها، في حال حياتهم. * (وآثارهم) * وهي: آثار الخير، وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها، في حال حياتهم، وبعد وفاتهم وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم، وأحوالهم. فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد، وتعليمه، أو نصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر. أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة، أو زكاة، أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال، التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر. ولهذا (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). وهذا الموضع، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله، والهداية إلى سبيله، بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه أسفل الخليقة، وأشدهم جرما، وأعظمهم إثما. * (وكل شيء) * من الأعمال والنيات وغيرها * (أحصيناه في إمام مبين) * أي: كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب، التي تكون بأيدي الملائكة، وهو اللوح المحفوظ. * (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جآءها المرسلون * إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنآ إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحم ن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون * وما علينآ إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون * وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحم ن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين * ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * يحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) * أي: واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك، مثلا يعتبرون به، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير. وذلك المثل: أصحاب القرية، وما جرى منهم من التكذيب لرسل الله، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله. وتعيين تلك القرية، لو كان فيه فائدة، لعينها الله، فالتعرض لذلك، وما أشبهه من باب التكلف، والتكلم بلا علم. ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا الأمر، تجد عنده من الخبط والخلط. والاختلاف الذي لا يستقر له قرار، ما تعرف به، أن طريق العلم الصحيح، الوقوف مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه. وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم، من حيث يظن الجاهل، أن زيادته، بذلك الأقوال التي لا دليل عليها، ولا حجة عليها، ولا يحصل منها من الفائدة، إلا تشويش الذهن، واعتياد الأمور المشكوك فيها. والشاهد أن هذه القرية جعلها الله مثلا للمخاطبين. * (إذا جاءها
(٦٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 688 689 690 691 692 693 694 695 696 697 698 ... » »»