تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٩٦
لها) * أي: دائما تجري لمستقر لها، قدره الله لها، لا تتعداه، ولا تقصر عنه، وليس لها تصرف في نفسها، ولا استعصاء على قدرة الله تعالى. * (ذلك تقدير العزيز) * الذي بعزته، دبر هذه المخلوقات العظيمة، بأكمل تدبير، وأحسن نظام. * (العليم) * الذي بعلمه، جعلها مصالح لعباده، ومنافع في دينهم ودنياهم. * (والقمر قدرناه منازل) * ينزلها، كل ليلة ينزل منها واحدة، * (حتى) * صغر جدا و * (عاد كالعرجون القديم) * أي: عرجون النخلة، الذي من قدمه، نش، وصغر حجمه، وانحنى، ثم بعد ذلك، ما زال يزيد شيئا فشيئا، حتى يتم نوره، ويتسق ضياؤه. * (وكل) * من الشمس والقمر، والليل والنهار، قدره الله تقديرا لا يتعداه، ولكل له سلطان ووقت، إذا وجد، عدم الآخر، ولهذا قال: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * أي: في سلطانه الذي هو الليل، فلا يمكن أن توجد الشمس في الليل. * (ولا الليل سابق النهار) * فيدخل عليه قبل انقضاء سلطانه. * (وكل) * من الشمس والقمر والنجوم * (في فلك يسبحون) * أي: يترددون على الدوام. فكل هذا دليل ظاهر، وبرهان باهر، على عظمة الخالق، وعظمة أوصافه. خصوصا، وصف القدرة والحكمة، والعلم في هذا الموضع. * (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين * وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون * وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين * وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين * ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) * أي: ودليل لهم وبرهان، على أن الله وحده المعبود، لأنه المنعم بالنعم، الصارف للنقم، الذي من جملة نعمه * (أنا حملنا ذريتهم) * قال كثير من المفسرين: المراد بذلك: آباؤهم. * (وخلقنا لهم) * أي: للموجودين من بعدهم * (من مثله) * أي: من مثل ذلك، أي: جنسه * (ما يركبون) * به. فذكر نعمته على الآباء، بحملهم في السفن، لأن النعمة عليهم، نعمة على الذرية. وهذا الموضع من أشكل المواضع علي في التفسير. فإن ما ذكره كثير من المفسرين، من أن المراد بالذرية الآباء، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء. بل فيه من الإبهام، وإخراج الكلام عن موضوعه، ما يأباه كلام رب العالمين، وإرادته البيان والتوضيح لعباده. وثم احتمال أحسن من هذا، وهو أن المراد بالذرية، الجنس، وأنهم هم بأنفسهم، لأنهم هم، من ذرية بني آدم. ولكن ينقض هذا المعنى قوله: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * إن أريد: وخلقنا من مثل ذلك الفلك، أي لهؤلاء المخاطبين، ما يركبون من أنواع الفلك، فيكون ذلك تكريرا للمعنى، تأباه فصاحة القرآن. فإن أريد بقوله: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * الإبل، التي هي سفن البر، استقام المعنى واتضح. إلا أنه يبقى أيضا، أن يكون الكلام فيه تشويش، فإنه لو أريد هذا المعنى، لقال: وآية لهم أنا حملناهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون. فأما أن يقول في الأول: حملنا ذريتهم، وفي الثاني: حملناهم، فإنه لا يظهر المعنى. إلا أن يقال: الضمير عائد إلى الذرية، والله أعلم بحقيقة الحال. فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد الله تعالى. وذلك أن من عرف جلالة كتاب الله، وبيانه التام من كل وجه، للأمور الحاضرة والماضية، والمستقبلة، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله، وكانت الفلك من آياته تعالى، ونعمه على عباده، من حين أنعم عليهم، بتعلمها إلى يوم القيامة، ولم تزل موجودة في كل زمان ، إلى زمان المواجهين بالقرآن. فلما خاطبهم الله تعالى بالقرآن، وذكر حالة الفلك، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك، في غير وقتهم، وفي غير زمانهم، حين يعلمهم صنعة الفلك البحرية، والشراعية منها والبخارية، والجوية السابحة في الجو، كالطيور ونحوها، والراكب البرية، مما كانت الآية العظمى فيه لا توجد إلا في الذرية، نبه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال: * (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) * أي: المملوء ركبانا وأمتعة. فحملهم الله تعالى، ونجاهم بالأسباب التي علمهم الله إياها، من
(٦٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 691 692 693 694 695 696 697 698 699 700 701 ... » »»