تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٩١
من مقت الرب الكريم؟ * (ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا) * أي: يخسرون أنفسهم، وأهليهم، وأعمالهم، ومنازلهم في الجنة. فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء والخسران، والخزي عند الله وعند خلقه والحرمان. * (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) * يقول تعالى، معجزا لآلهة المشركين، ومبينا نقصها، وبطلان شركهم من جميع الوجوه. * (قل) * يا أيها الرسول لهم: * (أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله) * أي: أخبروني عنهم، هل هم مستحقون للدعاء والعبادة. * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) * هل خلقوا بحرا، أم خلقوا جبالا، أو خلقوا حيوانا، أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الأشياء، هو الله تعالى. * (أم لهم) * أي: لشركائكم * (شرك في السماوات) * أي: مشاركة في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون: ليس لهم شركة في ذلك. فإذا لم يخلقوا شيئا، ولم يشركوا الخلق في خلقه، فلم عبدتموهم، ودعوتموهم مع إقراركم بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي، على صحة عبادتهم، ودل على بطلانها. ثم ذكر الدليل السمعي، وأنه أيضا منتف، فلهذا قال: * (أم آتيناهم كتابا) * يتكلم بما كانوا به يشركون، يأمرهم بالشرك، وعبادة الأوثان. * (فهم) * في شركهم * (على بينة منه) * أي: من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة الشرك؟ ليس الأمر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن، ولا جاءهم نذير قبل رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم. ولو قدر نزول كتاب إليهم، وإرسال رسول إليهم، وزعموا أنه أمرهم بشركهم، فإنا نجزم بكذبهم، لأن الله قال: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) *. فالرسل والكتب، كلها متفقة على الأمر بإخلاص الدين لله تعالى * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) *. فإن قيل: إذا كان الدليل العقلي، والدليل النقلي، قد دلا على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب تعالى بقوله: * (بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) * أي: ذلك الذي مشوا عليه، ليس لهم فيه حجة، وإنما ذلك، توصية بعضهم لبعض به، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخر بالمتقدم الضال، وأماني مناها الشياطين، وزينت لهم سوء أعمالهم. فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسر انفصالها، فحصل ما حصل، من الإقامة على الكفر، والشرك الباطل المضمحل. * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) * يخبر تعالى، عن كمال قدرته، وتمام رحمته، وسعة حلمه ومغفرته، وأنه تعالى، يمسك السماوات والأرض عن الزوال، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما. ولكنه تعالى، قضى أن يكونا كما وجدا، ليحصل للخلق القرار، والنفع، والاعتبار. وليعلموا من عظيم سلطانه، وقوة قدرته، ما به تمتلئ قلبوهم له إجلالا وتعظيما، ومحبة، وتكريما. وليلعموا كمال حلمه ومغفرته، بإمهال المذنبين، وعدم معاجلته للعاصين. مع أنه لو أمر السماء، لحصبتهم، ولو أذن للأرض، لا بتلعتهم. ولكن وسعتهم مغفرته، وحلمه، وكرمه * (إنه كان حليما) * في تأخير عقاب الكفار، * (غفورا) * لمن تاب. * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السئ ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) * أي: وأقسم هؤلاء، الذين كذبوك يا رسول الله، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان الغليظة. * (لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم) * أي: أهدى من اليهود والنصارى، أهل الكتب، فلم يفوا بتلك الأقسام والعهود. * (فلما جاءهم نذير) * لم يهتدوا، ولم يصيروا أهدى من إحدى الأمم، بل لم يدوموا على ضلالهم الذي كان. بل * (ما زادهم) * ذلك * (إلا نفورا) * وزيادة ضلال، وبغي، وعناد. وليس إقسامهم المذكور، لقصد حسن، وطلب للحق، وإلا لوفقوا له. ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق، وعلى الحق، وبهرجة في كلامهم هذا، يريدون به المكر والخداع، وأنهم أهل الحق، الحريصون على طلبه، فيغتر بهم المغترون، ويمشي خلفهم المقتدون. * (ولا يحيق المكر السئ) * الذي مقصوده، مقصود سيىء، ومآله وما يرمي إليه، سيىء باطل * (إلا بأهله) *، فمكرهم إنما يعود عليهم. وقد أبان الله لعباده في هذه المقالات، وتلك الأقسام، أنهم كذبة في ذلك ومزورون. فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيء. فعاد مكرهم في نحورهم، ورد الله كيدهم في صدورهم. فلم يبق لهم، إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم، والعناد، والاستكبار على العباد، أن تحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فليترقب هؤلاء، ما فعل بأولئك. * (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا
(٦٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 686 687 688 689 690 691 692 693 694 695 696 ... » »»