ومع هذا * (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) * لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم. * (ولو سمعوا) * على وجه الفرض والتقدير * (ما استجابوا لكم) * لأنهم لا يملكون شيئا، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولهذا قال: * (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) * أي: يتبرؤون منكم؛ ويقولون: * (سبحانك أنت ولينا من دونهم) *. * (ولا ينبئك مثل خبير) * أي: لا أحد ينبئك؛ أصدق من الله العليم الخبير. فاجزم بأن هذا الأمر، الذي نبأ به؛ كأنه رأي عين، فلا تشك ولا تمتر. فتضمنت هذه الآيات، الأدلة والبراهين، الساطعة، والدالة على أنه تعالى المألوه المعبود، الذي لا يستحق شيئا من العبادة سواه، وأن عبادة ما سواه باطلة متعلقة بباطل، لا تفيد عابده شيئا. * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبك م ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز * ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير) * يخاطب تعالى، جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه: فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا. فقراء في إعدادهم، بالقوى، والأعضاء، والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدوا لأي عمل كان. فقراء في إمدادهم، بالأقوات، والأرزاق والنعم، الظاهرة والباطنة. فلولا فضله وإحسانه، وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم، شيء. فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد. فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير. فقراء إليه، في تألههم له وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى. فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم، وأحوالهم. فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلهم. فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا. فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر، أم لم يشعروا. ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يلكه إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا حري بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بوالدها. * (والله هو الغني الحميد) * أي: الذي له الغنى التام، من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها صفات كمال، ونعوت جلال. ومن غناه تعالى، أن قد أغنى الخلق في الدنيا والآخرة. فهو الحميد في ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله، لأنها فضل وإحسان، وعدل، وحكمة، ورحمة. وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه من الصفات، وعلى ما منه من الفضل والإنعام، وعلى الجزاء بالعدل، وهو الحميد في غناه، الغني في حمده. * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) * يحتمل أن المراد: إن يشأ يذهبكم أيها الناس، ويأت بغيركم من الناس، أطوع لله منكم. ويكون في هذا، تهديد لهم بالهلاك والإبادة، وأن مشيئته غير قاصرة عن ذلك. ويحتمل أن المراد بذلك، إثبات البعث والنشور، وأن مشيئة الله تعالى، نافذة في كل شيء، وفي إعادتكم بعد موتكم، خلقا جديدا، ولكن لذلك الوقت أجل، قدره الله، لا يتقدم عنه ولا يتأخر. * (وما ذلك على الله بعزيز) * أي: بممتنع، ولا معجز له. ويدل على المعنى الأخير، ما ذكره بعده في قوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * أي: في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله، ولا يحمل أحد ذنب أحد. * (وإن تدع مثقلة) * أي: نفس مثقلة بالخطايا والذنوب * (إلى حملها) * أي: تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها * (لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) * فإنه لا يحمل قريب عن قريب. فليست حال الآخرة، بمنزلة حال الدنيا، يساعد الحميم حميمه، والصديق صديقه. بل يوم القيامة، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد، ولو على والديه وأقاربه. * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة) * أي: هؤلاء الذين يقبلون النذارة، وينتفعون بها، هم أهل الخشية لله بالغيب، الذين يخشونه في حال السر والعلانية، والمشهد والمغيب، وأهل إقامة الصلاة، بحدودها، وشروطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها. لأن الخشية لله تستدعي من العبد، العمل بما يخشى من تضييعه العقاب والهرب مما يخشى من ارتكابه
(٦٨٧)