تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٨٣
* (قل) * يا أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين المعاندين، المتصدين لرد الحق وتكذيبه، والقدح بمن جاء به: * (إنما أعظكم بواحدة) * أي: بخصلة واحدة، أشير عليكم بها، وأنصح لكم في سلوكها. وهي طريق نصف، لست أدعوكم بها، إلى اتباع قولي، ولا إلى ترك قولكم، من دون موجب لذلك، وهي: * (أن تقوموا لله مثنى وفرادى) * أي: تنهضوا بهمة، ونشاط وقصد لاتباع الصواب، وإخلاص لله، مجتمعين، ومتباحثين في ذلك، ومتناظرين، وفرادي، كل واحد يخاطب نفسه بذلك. فإذا قمتم لله، مثنى وفرادي، استعملتم فكركم، وأجلتموه، وتدبرتم أحوال رسولكم: هل هو مجنون، فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته، وصفته؟ أم هو نبي صادق، منذر لكم ما يضركم، مما أمامكم من العذاب الشديد؟ فلو قبلوا هذه الموعظة، واستعملوها، لتبين لهم أكثر من غيرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بمجنون، لأن هيئته ليست كهيئة المجانين، في خنقهم، واختلاجهم، ونظرهم. بل هيئته أحسن الهيئات، وحركاته أجل الحركات، وهو أكمل الخلق، أدبا، وسكينة، وتواضعا، ووقارا، لا يكون إلا لأرزن الرجال عقلا. ثم إذا تأملوا كلامه الفصيح، ولفظه المليح، وكلماته التي تملأ القلوب، أمنا، وإيمانا، وتزكي النفوس، وتطهر القلوب، وتبعث على مكارم الأخلاق، وتحث على محاسن الشيم، وتزجر عن مساوىء الأخلاق ورذائلها. إذا تكلم، رمقته العيون، هيبة وإجلالا، وتعظيما. فهل هذا يشبه هذيان المجانين، وعربدتهم، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم؟ فكل من تدبر أحواله؛ وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده، أم معه غيره، جزم بأنه رسول الله حقا، ونبيه صدقا، خصوصا المخاطبين، وهو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره. وثم مانع للنفوس آخر، عن اتباع الداعي، إلى الحق، وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له، ويأخذ أجره على دعوته. فبين الله تعالى نزاهة رسوله عن هذا الأمر فقال: * (قل ما سألتكم من أجر) * أي: على اتباعكم للحق * (فهو لكم) * أي: فأشهدكم أن ذلك الأجر على التقدير أنه لكم. * (إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد) * أي: محيط علمه مما أدعو إليه. فلو كنت كاذبا، لأخذني بعقوبته. وشهيد أيضا على أعمالكم، سيحفظها عليكم، ثم يجازيكم بها. ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق، وبطلان الباطل، أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن * (نقذف بالحق) * على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق؛ لأنه بين من الحق في هذا الموضع، ورد به أقوال المكذبين، ما كان عبرة للمعتبرين، وآية للمتأملين. فإنك كما ترى، كيف اضمحلت أقوال المكذبين، وتبين كذبهم وعنادهم، وظهر الحق وسطع، وبطل الباطل وانقمع. وذلك بسبب بيان * (علام الغيوب) * الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب، من الوساوس والشبه، ويعلم ما يقابل ذلك، ويدفعه من الحجج. فيعلم بها عباده، ويبينها لهم، ولهذا قال: * (قل جاء الحق) * أي: ظهر وبان، وصار بمنزلة الشمس، وظهر سلطانه، * (وما يبدئ الباطل وما يعيد) * أي: اضمحل وبطل أمره، وذهب سلطانه، فلا يبدىء ولا يعيد. ولما تبين الحق بما دعا إليه الرسول، وكان المكذبون له، يرمونه بالضلال، أخبرهم بالحق، ووضحه لهم، وبين لهم عجزهم عن مقاومته، وأخبرهم أن رميهم له بالضلال، ليس بضائر الحق شيئا، ولا دافع ما جاء به. وأنه إن ضل وحاشاه من ذلك، لكن على سبيل التنزل في المجادلة فإنما يضل على نفسه، أي: ضلاله قاصر على نفسه، غير متعد إلى غيره. * (وإن اهتديت) * فليس ذلك من نفسي، وحولي، وقوتي، وإنما هدايتي بما * (يوحي إلي ربي) * فهو مادة هدايتي، كما هو مادة هادية غيري. إن ربي * (سميع) * للأقوال والأصوات كلها * (قريب) * ممن دعاه وسأله، وعبده. * (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد * وقد ك فروا به من ق بل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد * وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب) * يقول تعالى: * (ولو ترى) * أيها لرسول، ومن قام مقامك، حال هؤلاء المكذبين. * (إذ فزعوا) * حين رأوا العذاب، وما أخبرتهم به الرسل، وما كذبوا به، لرأيت أمرا هائلا، ومنظرا مفظعا، وحالة منكرة، وشدة شديدة، وذلك حين يحق عليهم العذاب.
(٦٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 678 679 680 681 682 683 684 685 686 687 688 ... » »»