يا أهل العقول غير الزاكية لم ينبغ أن تصغوا لما قال، ولا أن تحتفلوا بدعوته. فإن المجنون، لا ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره، أو يبلغ قوله منه، كل مبلغ. ولولا عنادكم وظلمكم، لبادرتم لإجابته، ولبيتم دعوته، ولكن * (ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * ولهذا قال تعالى: * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة) * ومنهم الذين قالوا تلك المقالة. * (في العذاب والضلال البعيد) * أي: في الشقاء العظيم، والضلال البعيد، الذي ليس بقريب من الصواب. وأي شقاء وضلال، أبلغ من إنكارهم لقدرة الله على البعث، وتكذيبهم لرسوله، الذي جاء به، واستهزائهم به، وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق، فرأوا الحق باطلا، والباطل والضلال حقا وهدى. ثم نبههم على الدليل العقلي، الدال على عدم استبعاد البعث، الذي استبعدوه، وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، من السماء والأرض لرأوا من قدرة الله فيهما، ما يبهر العقول، ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول، وأن خلقهما وعظمتهما، وما فيهما من المخلوقات، أعظم من إعادة الناس بعد موتهم من قبورهم. فما الحامل لهم، على ذلك التكذيب، مع التصديق بما هو أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن، ما شاهدوه، فلذلك كذبوا به. قال الله: * (إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) * أي: من العذاب، لأن الأرض والسماء، تحت تدبيرنا، فإن أمرناهما، لم يستعصيا. فاحذروا إصراركم على تكذيبكم، فنعاقبكم أشد العقوبة. * (إن في ذلك) * أي: خلق السماوات والأرض، وما فيهما من المخلوقات * (لآية لكل عبد منيب) * راجع إلى ربه، ومطيع له، فيجزم بأن الله قادر على البعث. فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى الله، كان انتفاعه بالآيات أعظم، لأن المنيب مقبل إلى ربه، قد توجهت إرادته وهماته لربه، ورجع إليه في كل أمر من أموره، فصار قريبا من ربه، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته. فيكون نظره للمخلوقات، نظر فكر وعبرة، لا نظر غفلة غير نافعة. * (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير) * أي: ولقد مننا على عبدنا ورسولنا، داود عليه الصلاة والسلام، وآيتناه فضلا من العلم النافع، والعمل الصالح، والنعم الدينية والدنيوية. ومن نعمه عليه، ما خصه من أمره تعالى الجمادات، كالجبال والحيوانات، من الطيور، أن تؤوب معه، وترجع التسبيح بحمد ربها، مجاوبة له. وفي هذا من النعمة عليه، أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره، على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات، تتجاوب بتسبيح ربها، وتمجيده، وتكبيره، وتحميده، كان ذلك مما يهيج على ذكر الله تعالى. ومنها: أن ذلك كما قال كثير من العلماء، أنه طرب لصوت داود. فإن الله تعالى، قد أعطاه من حسن الصوت، ما فاق به غيره، وكان إذا رجع التسبيح والتهليل والتمجيد بذلك الصوت الرخيم الشجي المطرب، طرب كل من سمعه، من الإنس، والجن، حتى الطيور والجبال، وسبحت بحمد ربها. ومنها: أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها، لأنه سبب ذلك، وتسبح تبعا له. ومن فضله عليه، أن ألان له الحديد، ليعمل الدروع السابغات، وعلمه تعالى كيفية صنعته، بأن يقدره في السرد، أي: يقدره حلقا، ويصنعه كذلك، ثم يدخل بعضها ببعض. قال تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) * ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله، أمره بشكره، وأن يعملوا صالحا، ويراقبوا الله تعالى فيه، بإصلاحه وحفظه من المفسدات، فإنه بصير بأعمالهم، مطلع عليهم، لا يخفى عليه منها شيء. * (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) * لما ذكر فضله على داود عليه السلام، ذكر فضله على ابنه سليمان، عليه الصلاة والسلام، وأن الله سخر له الريح تجري بأمره، وتحمله، وتحمل جميع ما معه، وتقطع المسافة البعيدة جدا، في مدة يسيرة، فتسير في اليوم، مسيرة شهرين. * (غدوها شهر) * أي: أول النهار إلى الزوال * (ورواحها شهر) * أي الزوال، إلى آخر النهار * (وأسلنا له عين القطر) * أي: سخرنا له عين النحاس، وسهلنا له الأسباب، في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها. وسخر الله له أيضا، الشياطين والجن، لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره، * (ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) * وأعمالهم، كل ما شاء سليمان عملوه. * (من محاريب) * وهو: كل بناء يعقد، وتحكم به الأبنية، فهذا فيه، ذكر الأبنية الفخمة. * (وتماثيل) * أي: صور الحيوانات والجمادات، من إتقان صنعتهم،
(٦٧٦)