تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٧٩
والعجب، أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل، بزعمه أنهم بشر، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر، والحجر، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه، طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان. وقوله: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) *. يحتمل أن الضمير في هذا الموضع، يعود إلى المشركين، لأنهم مذكورون في اللفظ. والقاعدة في الضمائر، أن تعود إلى أقرب مذكور. ويكون المعنى: إذا كان يوم القيامة، وفزع عن قلوب المشركين، أي: زال الفزع، وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم، عن حالهم في الدنيا، وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل، أنهم يقرون أن ما هم عليه من الكفر والشرك باطل، وأن ما قال الله، وأخبرت به عنه رسله، هو الحق * (فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) * وعملوا أن الحق لله، واعترفوا بذنوبهم. * (وهو العلي) * بذاته، فوق جميع المخلوقات، وقهره لهم، وعلوا قدره، بما له من الصفات العظيمة، الجليلة المقدار * (الكبير) * في ذاته وصفاته.
ومن علوه، أن حكمه تعالى يعلو، وتذعن له النفوس، حتى نفوس المتكبرين والمشركين. وهذا المعنى أظهر، وهو الذي يدل عليه السياق. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة، وذلك أن الله تعالى إذا تكلم بالوحي، سمعته الملائكة، فصعقوا وخروا لله سجدا. فيكون أول من يرفع رأسه، جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد. فإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة، وزال الفزع فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام، الذي صعقوا منه: فإذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: قال الحق، إما إجمالا، لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا. وإما أن يقولوا: قال كذا وكذا، للكلام الذي سمعوه منه، وذلك من الحق. فيكون المعنى على هذا: أن المشركين الذين عبدوا مع الله تلك الآلهة، التي وصفنا لكم عجزها ونقصها، وعدم نفعها بوجه من الوجوه، كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم، العلي الكبير، الذي من عظمته وجلاله أن الملائكة الكرام، والمقربين من الخلق، يبلغ بهم الخضوع والصعق، عند سماع كلامه هذا المبلغ، ويقرون كلهم لله، أنه لا يقول إلا الحق. فما بال هؤلاء المشركين، استكبروا عن عبادة من هذا شأنه، وعظمة ملكه وسلطانه. فتعالى العلي الكبير، عن شرك المشركين، وإفكهم، وكذبهم. * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم) * يأمر تعالى، نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، أن يقول لمن أشرك بالله ويسأله عن صحة شركه: * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) * فإنهم، لا بد أن يقروا أنه الله. ولئن لم يقروا * (قل الله) * فإنك لا تجد من يدفع هذا القول. فإذا تبين أن الله وحده، الذي يرزقكم من السماوات والأرض، وينزل لكم المطر، وينبت لكم النبات، ويفجر لكم الأنهار، ويطلع لكم من ثمار الأشجار، وجعل لكم الحيوانات جميعها، لنفعكم ورزقكم، فلم تعبدون من لا يرزقكم شيئا، ولا يفيدكم نفعا؟ وقوله: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * أي: إحدى الطائفتين، منا ومنكم، على الهدى، مستعلية عليه، أو في ضلال بين، منغمرة فيه، وهذا الكلام، يقوله من تبين له الحق، واتضح له الصواب، وجزم بالحق الذي هو عليه، وبطلان ما عليه خصمه. أي: قد شرحنا من الأدلة الواضحة، عندنا وعندكم، ما به يعلم علما يقينيا لا شك فيه، من المحق منا، ومن المبطل، ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير اليقين بعد ذلك، لا فائدة فيه. فإنك إذا وازنت بين من يدعوا إلى عبادة الخالق، بسائر المخلوقات المتصرف فيها بجميع أنواع التصرفات، المسدي جميع النعم، الذي رزقهم، وأوصل إليهم كل نعمة، ودفع عنهم كل نقمة، الذي له الحمد كله، والملك كله، وكل أحد من الملائكة فمن دونهم، خاضعون لهيبته، متذللون لعظمته، وكل الشفعاء، تخافه، لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه. العلي الكبير، في ذاته، وأوصافه، وأفعاله، الذي له كل كمال، وكل جلال، وكل جمال، وكل حمد وثناء ومجد. يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه، وإخلاص العمل له، وينهى عن عبادة من سواه، وبين من يتقرب إلى أوثان، وأصنام، وقبور، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك لأنفسها، ولا لمن عبدها، نفعا ولا ضرا، ولا موتا،
(٦٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 674 675 676 677 678 679 680 681 682 683 684 ... » »»