وتمزقوا، بعدما كانوا مجتمعين، وجعلهم الله أحاديث يتحدث بهم، وأسمارا للناس، وكان يضرب بهم المثل فيقال: (تفرقوا أيدي سبأ) فكل أحد يتحدث بما جرى لهم. ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا من قال الله فيهم: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) * صبار على المكاره والشدائد، يتحملها لوجه الله، ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة الله تعالى يقر بها، ويعترف، ويثني على من أولاها، ويصرفها في طاعته. فهذا إذا سمع بقصتهم، وما جرى منهم وعليهم، عرف بذلك أن تلك العقوبة، جزاء لكفرهم نعمة الله، وأن من فعل مثلهم، فعل به، كما فعل بهم. وأن شكر الله تعالى، حافظ للنعمة، دافع للنقمة. وأن رسل الله، صادقون فيما أخبروا به. وأن الجزاء حق، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا. ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدق عليهم إبليس ظنه، حيث قال لربه: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) *. وهذا ظن من إبليس، لا يقين؛ لأنه لا يعلم الغيب، ولم يأته خبر من الله أنه سيغويهم أجمعين، إلا من استثنى. فهؤلاء وأمثالهم، ممن صدق عليه إبليس ظنه، ودعاهم وأغواهم * (فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * ممن لم يكفر بنعمة الله، فإنه لم يدخل تحت ظن إبليس. ويحتمل أن قصة سبأ، انتهت عند قوله: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) *. ثم ابتدأ فقال: * (ولقد صدق عليهم) * أي: على جنس الناس، فتكون الآية عامة، في كل من اتبعه. ثم قال تعالى: * (وما كان له) * أي: لإبليس * (عليهم من سلطان) * أي: تسلط، وقهر، وقسر على ما يريده منهم، ولكن حكمة الله تعالى، اقتضت تسليطه، وتسويله لبني آدم. * (لنعملم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) * أي: ليقوم سوق الامتحان، ويعلم به الصادق من الكاذب، ويعرف من كان إيمانه صحيحا، يثبت عند الامتحان والاختبار، وإلقاء الشبه الشيطانية، ممن إيمانه غير ثابت، يتزلزل بأدنى شبهة، ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده. فالله تعالى جعله امتحانا، يمتحن به عباده، ويظهر الخبيث من الطيب. * (وربك على كل شيء حفيظ) * يحفظ العباد، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويحفظ تعالى جزاءها، فيوفيهم إياها، كاملة موفرة. * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) * أي: * (قل) * يا أيها الرسول، للمشركين بالله غيره من المخلوقات، التي لا تنفع ولا تضر، ملزما لهم بعجزها، ومبينا بطلان عبادتها: * (ادعوا الذين زعمتم من دون الله) * أي: زعمتموهم شركاء لله، إن كان دعاؤكم ينفع، فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز، وعدم إجابة الدعاء من كل وجه. فإنهم ليس لهم أدنى ملك * (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات والأرض) * على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، ولهذا قال: * (وما لهم) * أي: لتلك الآلهة الذين زعمتم * (فيهما) * أي: في السماوات والأرض. * (من شرك) * أي: لا شرك قليل ولا كثير، فليس لهم ملك، ولا شركة ملك. بقي أن يقال: ومع ذلك، فقط يكونون أعوانا للمالك، ووزراء له، فدعاؤهم يكون نافعا، لأنهم بسبب حاجة الملك إليهم يقضون حوائج من تعلق بهم. فنفى تعالى هذه المرتبة فقال: * (وما له) * أي: لله تعالى الواحد القهار * (منهم) * أي: من هؤلاء المعبودين * (من ظهير) * أي: معاون ووزير، يساعده على الملك والتدبير. فلم يبق إلا الشفاعة، فنفاها بقوله: * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) *. فهذه أنواع التعلقات، التي يتعلق بها المشركون بأندادهم، وأوثانهم، من البشر، والشجر، وغيرهم، فطعها الله وبين بطلانها، تبيينا حاسما لمواد الشرك، قاطعا لأصوله. لأن المشرك، إنما يدعو ويعبد غير الله، لما يرجو منه من النفع، فهذا الرجاء، هو الذي أوجب له الشرك. فإذا كان من يدعوه غير الله، لا مالكا للنفع والضر، ولا شريكا للمالك، ولا عونا وظهيرا للمالك، ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك، كان هذا الدعاء، وهذه العبادة، ضلالا في العقل، باطلة في الشرع. بل ينعكس على المشرك مطلوبه، ومقصوده، فإنه يريد منها النفع، فبين الله بطلانه، وعدمه، وبين في آيات أخر، ضررها على عابديها، وأنه يوم القيامة، يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، ومأواهم النار * (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) *.
(٦٧٨)