تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٣٦
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق * إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) * يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض، من الذين أوتوا الكتاب، من المؤمنين واليهود والنصاى والصابئين، ومن المجوس، ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل، ويجازيهم بأعمالهم، التي حفظها وكتبها، وشهدها، ولهذا قال: * (إن الله على كل شيء شهيد) *. ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * كل يدعي أنه المحق. * (فالذين كفروا) * يشمل كل كافر، من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمشركين. * (قطعت لهم ثياب من نار) * أي: يجعل لهم ثياب من قطران، وتشعل فيها النار، ليعمهم العذاب، من جميع جوانبهم. * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) * الماء الحار جدا، يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم والأمعاء، من شدة حره، وعظيم أمره. * (ولهم مقامع من حديد) * بيد الملائكة الغلاظ الشداد، تضربهم فيها وتقمعهم. * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) * فلا يفتر عنهم العذاب، ولا هم ينظرون، ويقال لهم توبيخا: * (وذوقوا عذاب الحريق) * أي: المحرق للقلوب والأبدان. * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) *، ومعلوم أن هذا الوصف لا يصدق على غير المسلمين، الذين آمنوا بجميع الكتب، وجميع الرسل. * (يحلون فيها من أساور من ذهب) * أي: يسورون في أيديهم، رجالهم ونساؤهم أساور الذهب. * (ولباسهم فيها حرير) * فتم نعيمهم بذلك، من أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها، لفظ الجنات، وذكر الأنهار السارحات، أنهار الماء واللبن والعسل والخمر، وأنواع اللباس، والحلي الفاخر. وذلك بسبب أنهم * (هدوا إلى الطيب من القول) * الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم سائر الأقوال الطيبة، التي فيها، ذكر الله، أو إحسان إلى عبادة الله. * (وهدوا إلى صراط الحميد) * أي: الصراط المحمود. وذلك، لأن جميع الشرع كله، محتو على الحكمة والحمد، وحسن المأمور به، وقبح المنهي عنه، وهو الدين الذي، لا إفراط فيه ولا تفريط، المشتمل على العلم النافع، والعمل الصالح. أو، وهدوا إلى صراط الله الحميد، لأن الله، كثيرا ما يضيف الصراط إليه، لأنه يوصل صاحبه إلى الله. وفي ذكر * (الحميد) * هنا، ليبين أنهم نالوا الهداية، بحمد ربهم، ومنته عليهم، ولهذا يقولون في الجنة * (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) *. واعترض تعالى بين هذه الآيات، بذكر سجود المخلوقات له، جميع من في السماوات والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، الذي يشمل الحيوانات كلها، وكثير من الناس، وهم المؤمنون. * (وكثير حق عليه العذاب) * أي: وجب وكتب، لكفره، وعدم إيمانه، فلم يوفقه للإيمان، لأن الله أهانه. * (ومن يهن الله فما له من مكرم) * ولا راد لما أراد، ولا معارض لمشيئته، فإذا كانت المخلوقات كلها، ساجدة لربها، خاضعة لعظمته، مستكينة لعزته، عانية لسلطانه، دل على أنه وحده، الرب المعبود، والملك المحمود، وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه، فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا. * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) * يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإيمان، والصد أيضا، عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارىء إليه. بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه، والحال أن المسجد الحرام، من حرمته واحترامه وعظمته، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم، نذقه من عذاب أليم. فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد في الحرم، موجب للعذاب، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، من الكفر والشرك، والصد عن سبيله ومنع من يريده بزيارة، فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟ وفي هذه الآية الكريمة، وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه، وفعلها. * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطآئفين والقآئمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا
(٥٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 529 530 531 532 535 536 537 538 539 540 541 ... » »»