تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٣٠
* (فاستجبنا له ونجيناه من الغم) * أي: الشدة التي وقع فيها. * (وكذلك ننجي المؤمنين) * وهذا وعد وبشارة، لكل مؤمن وقع في شدة وغم، أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف، لإيمانه كما فعل ب (يونس) عليه السلام. * (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) * أي: واذكر عبدنا ورسولنا، زكريا، منوها بذكره، ناشرا لمناقبه وفضائله، التي من جملتها، هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه الخلق، ورحمة الله إياه، وأنه * (نادى ربه رب لا تذرني فردا) * أي: * (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) *. من هذه الآيات علمنا أن قوله: * (رب لا تذرني فردا) * أنه لما تقارب أجله، خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله، والنصح لعباد الله، وأن يكون في وقته فردا، ولا يخلف من يشفعه ويعينه، على ما قام به. * (وأنت خير الوارثين) * أي: خير الباقين، وخير من خلفني بخير، وأنت أرحم بعبادك مني، ولكني أريد أن يطمئن به قلبي، وتسكن له نفسي، ويجري في موازيني ثوابه. * (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) * النبي الكريم، الذي لم يجعل الله له من قبل سميا. * (وأصلحنا له زوجه) * بعدما كانت عاقرا، لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل، لأجل نبيه زكريا، وهذا من فوائد الجليس، والقرين الصالح، أنه مبارك على قرينه، فصار يحيى مشتركا بين الوالدين. ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين، كلا على انفراده، أثنى عليهم عموما فقال: * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) * أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق، الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها. * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا، من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون. * (وكانوا لنا خاشعين) * أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم. * (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنهآ آية للعالمين * إن ه ذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون * فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون) * أي: واذكر مريم، عليها السلام، مثنيا عليها مبينا لقدرها، شاهرا لشرفها، فقال: * (والتي أحصنت فرجها) * أي: حفظته من الحرام وقربانه، بل ومن الحلال، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها بالخدمة لربها. وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) * فجازاها الله من جنس عملها، ورزقها ولدا من غير أب، بل نفخ فيها جبريل عليه السلام، فحملت بإذن الله. * (وجعلناها وابنها آية للعالمين) * حيث حملت به، ووضعته من دون مسيس أحد، وحيث تكلم في المهد، وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة، وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات، ما هو معلوم، فكانت وابنها آية للعالمين، يتحدث بها، جيلا بعد جيل، ويعتبر بها المعتبرون. ولما ذكر الأنبياء عليهم السلام، قال مخاطبا للناس: * (إن هذه أمتكم أمة واحدة) * أي: هؤلاء الرسل المذكورون، هم أمتكم وأئمتكم الذين بهم تأتمون، وبهديهم تقتدون، كلهم على دين واحد، وصراط واحد، والرب أيضا واحد. ولهذا قال: * (وأنا ربكم) * الذي خلقتكم، وربيتكم بنعمتي، في الدين والدنيا، فإذا كان الرب واحدا، والنبي واحدا، والدين واحدا، وهو: عبادة الله، وحده لا شريك له، بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم، والواجب عليكم، القيام بها. ولهذا قال: * (فاعبدون) * فرتب العبادة على ما سبق بالفاء، ترتيب المسبب على سببه. وكان اللائق، الاجتماع على هذا الأمر، وعدم التفرق فيه، ولكن البغي والاعتداء، أبيا إلا الافتراق والتقطع. ولهذا قال: * (وتقطعوا أمرهم بينهم) * أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لاتباع الأنبياء فرقا، وتشتتوا، كل يدعي أن الحق معه، والباطل مع الفريق الآخر و * (كل حزب بما لديهم فرحون) *. وقد علم أن المصيب منهم، من كان سالكا للدين القويم، والصراط المستقيم، مؤتما بالأنبياء، وسيظهر هذا، إذا انكشف الغطاء، وبرح الخفاء، وحشر الله الناس لفصل القضاء. فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، ولهذا قال: * (كل) * من الفرق المتفرقة وغيرهم * (إلينا راجعون) * أي: فنجازيهم أتم الجزاء. ثم فصل جزاءه فيهم، منطوقا ومفهوما، فقال: * (فمن يعمل من الصالحات) * أي: الأعمال التي شرعتها الرسل، وحثت عليها الكتب * (وهو مؤمن) * بالله وبرسله، وما جاؤوا به * (فلا كفران لسعيه) * أي: لا نضيع سعيه ولا نبطله، بل نضاعفه له، أضعافا كثيرة. * (وإنا له كاتبون) * أي: مثبتون له في اللوح المحفوظ، وفي الصحف
(٥٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 525 526 527 528 529 530 531 532 535 536 537 ... » »»