تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٣٩
فاحمدوه. وقوله: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) * أي: ليس المقصود منها، ذبحها فقط. ولا ينال الله من لحومها، ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: * (ولكن يناله التقوى منكم) *. ففي هذا، حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرا، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص، وتقوى الله، كان كالقشر الذي لا لب فيه، والجسد، الذي لا روح فيه. * (كذلك سخرها لكم لتكبروا الله) * أي: تعظموه وتجلوه. * (على ما هداكم) * أي: مقابلة لهدايته إياكم، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم. * (وبشر المحسنين) * بعبادة الله بأن يعبدوا الله، كأنهم يرونه، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة، فليعبدوه، معتقدين وقت عبادتهم، اطلاعه عليهم، ورؤيته إياهم. والمحسنين لعباد الله، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال، أو علم، أو جاه، أو نصح، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو كلمة طيبة ونحو ذلك. فالمحسنون، لهم البشارة من الله، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم، كما أحسنوا في عبادته ولعباده * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) *. * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) * هذا إخبار، ووعد، وبشارة من الله، للذين آمنوا، أن الله يدفع عنهم كل مكروه. ويدفع عنهم بسبب إيمانهم كل شر من شرور الكفار، وشرور وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف. كل مؤمن، له من هذه المدافعة والفضيلة، بحسب إيمانه، فمستقل، ومستكثر. * (إن الله لا يحب كل خوان) * أي: خائن في أمانته، التي حمله الله إياها، فيبخس حقوق الله عليها، ويخونها، ويخون الخلق. * (كفور) * لنعم الله، يوالي الله عليه الإحسان، ويتوالى منه الكفر والعصيان. فهذا لا يحبه الله، بل يبغضه ويمقته، وسيجازيه على كفره وخيانته، ومفهوم الآية، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته، شكور لمولاه. * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزك اة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) * كان المسلمون في أول الإسلام، ممنوعين من قتال الكفار، ومأمورين بالصبر عليهم، لحكمة إلهية. فلما هاجروا إلى المدينة، وأوذوا، وحصل لهم منعة وقوة، أذن لهم بالقتال، كما قال تعالى: * (أذن للذين يقاتلون) * يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين، فأذن الله لهم بقتال الذين يقاتلونهم، وإنما أذن لهم، لأنهم ظلموا، بمنعهم من دينهم، وأذيتهم عليه، وإخراجهم من ديارهم. * (وإن الله على نصرهم لقدير) * فليستنصروه، وليستعينوا به. ثم ذكر صفة ظلمهم فقال: * (الذين أخرجوا من ديارهم) * أي: ألجؤوا إلى الخروج، بالأذية والفتنة * (بغير حق إلا) * أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم * (أن يقولوا ربنا الله) * أي: إلا لأنهم وحدوا الله، وعبدوه مخلصين له الدين، فإن كان هذا ذنبا، فهو ذنبهم كقوله تعالى: * (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) *. وهذا يدل على حكمة الجهاد، فإن المقصود منه، إقامة دين الله، أو ذب الكفار المؤذين للمؤمنين، البادئين لهم بالاعتداء، عن ظلمهم، واعتدائهم، والتمكن من عبادة الله، وإقامة الشرائع الظاهرة. ولهذا قال: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) * فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله، ضرر الكافرين. * (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد) * أي: لهدمت هذه المعابد الكبار، لطوائف أهل الكتاب، معابد اليهود، والنصارى، والمساجد للمسلمين. * (يذكر فيها) * أي: في هذه المعابد * (اسم الله كثيرا) * تقام فيها الصلوات، وتتلى فيها كتب الله، ويذكر فيها، اسم الله، بأنواع الذكر، فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لاستولى الكفار على المسلمين، فخربوا معابدهم، وفتنوهم عن دينهم، فدل هذا، أن الجهاد مشروع، لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره. ودل ذلك، على أن البلدان، التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله، وعمرت مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها، من فضائل المجاهدين وبركتهم، فبذلك دفع الله عنها الكافرين قال الله تعالى: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) *.. فإن قلت نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب، مع أنها كثير منها إمارة صغيرة، وحكومة غير منظمة، مع أنهم لا بد لهم بقتال من جاورهم من الإفرنج. بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم، عامرة، وأهلها آمنون مطمئنون، مع قدرة ولاتهم، من الكفار على هدمها والله أخبر أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدمت هذه المعابد، ونحن لا نشاهد دفعا. أجيب، بأن جواب هذا السؤال والاستشكال، داخل في عموم هذه الآية، وفرد من أفرادها. فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها، وأنها تعتبر كل أمة وجنس، تحت ولايتها، وداخل في حكمها، تعتبره عضوا من أعضاء المملكة، وجزء من أجزاء الحكومة، سواء كانت تلك الأمة
(٥٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 532 535 536 537 538 539 540 541 542 543 544 ... » »»