تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٣٧
منها وأطعموا البائس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) * يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه وهو خليل الرحمن فقال: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) * أي: هيأناه له، وأنزلناه إياه، وجعل قسما من ذريته من سكانه، وأمره الله ببنيانه، فبناه على تقوى الله، وأسسه على طاعة الله، وبناه هو وابنه إسماعيل، وأمره أن لا يشرك به شيئا، بأن يخلص لله أعماله، ويبنيه على اسم الله. * (وطهر بيتي) * أي: من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس وإضافة الرحمن إلى نفسه، لشرفه، وفضله، ولتعظم محبته في القلوب، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر، وقراءة وتعلم علم وتعليمه، وغير ذلك من أنواع القرب. * (والركع السجود) * أي: المصلين، أي: طهره لهؤلاء الفضلاء، الذين همهم، طاعة مولاهم، وخدمته والتقرب إليه عند بيته، فهؤلاء، لهم الحق ولهم الإكرام، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم، ويدخل في تطهيره، تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين، بالصلاة والطواف، وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة، لاختصاصه بهذا البيت ثم الاعتكاف، لاختصاصه بجنس المساجد. * (وأذن في الناس بالحج) * أي: أعلمهم به، وادعهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم، أتوك حجاجا: وعمارا، رجالا، أي: مشاة على أرجلهم من الشوق. * (وعلى كل ضامر) * أي: ناقة ضامر، تقطع المهامه والمفاوز. وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن. * (من كل فج عميق) * أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل عليه السلام، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم، فدعيا إلى حج هذا البيت، وأبديا في ذلك وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس، رجالا وركبانا من مشارق الأرض، ومغاربها، ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام، مرغبا فيه فقال: * (ليشهدوا منافع لهم) * أي: لينالوا ببيت الله، منافع دينية، من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية، من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، ولك هذا أمر مشاهد كل يعرفه. * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) * وهذا من المنافع الدينية والدنيوية أي: ليذكروا اسم الله، عند ذبح الهدايا، شكرا لله على ما رزقهم منها، ويسرها لهم، فإذا ذبحتموها * (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) *، أي: شديد الفقر. * (ثم ليقضوا تفثهم) * أي: يقضوا نسكهم، ويزيلوا الوسخ والأذى، الذي لحقهم في حال الإحرام. * (وليوفوا نذورهم) * التي أوجبوها على أنفسهم، من الحج، والعمرة والهدايا. * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * أي: القديم، أفضل المساجد على الإطلاق. والمعتق: من تسلط الجبابرة عليه. وهذا أمر بالطواف، خصوصا بعد الأمر بالمناسك له عموما، لفضله، وشرفه، ولكونه المقصود، وما قبله وسائل إليه. ولعله والله أعلم أيضا لفائدة أخرى، وهو: أن الطواف مشروع كل وقت، وسواء كان تابعا لنسك، أم مستقلا بنفسه. * (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفآء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) * * (ذلك) * أي: ما ذكرنا لكم من تلكم الأحكام، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها، وتكريمها، لأن تعظيم حرمات الله، من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظمها وأجلها، أثابه الله ثوابا جزيلا، وكانت خيرا له، في دينه، ودنياه وأخراه، عند ربه. وحرمات الله: كل ماله حرمة، وأمر باحترامه، من عبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها. فتعظيمها يكون إجلالا بالقلب، ومحبتها، تكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل، ثم ذكر منته وإحسانه، بما أحله لعباده، من بهيمة الأنعام، من إبل وبقر، وغنم، وشرعها من جملة المناسك، التي يتقرب بها إليه، فعظمت منته فيها من الوجهين. * (إلا ما يتلى عليكم) * في القرآن تحريمه من قوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * الآية. ولكن الذي من رحمته بعباده، أن حرمه عليهم، ومنعهم منه، تزكية لهم، وتطهيرا من الشرك به، وقول الزور، ولهذا قال: * (فاجتنبوا الرجس) * أي: الخبث القذر * (من الأوثان) * أي: الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله، فإنها أكبر أنواع الرجس. والظاهر أن * (من) * هنا ليست لبيان الجنس، كما قاله كثير من المفسرين، وإنما هي للتبعيض، وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات، فيكون
(٥٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 530 531 532 535 536 537 538 539 540 541 542 ... » »»