تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٢٩
ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) * أي: واذكر عبدنا ورسولنا، أيوب مثنيا معظما له، رافعا لقدره، حين ابتلاه، ببلاء شديد، فوجده صابرا راضيا عنه، وذلك أن الشيطان سلط على جسده، ابتلاء من الله، وامتحانا فنفخ في جسده، فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة، واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله، فنادى ربه قائلا رب: * (إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) *. فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ، وبرحمة ربه الواسعة العامة استجاب الله له، وقال: * (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) * فركض برجله، فخرجت من ركضته عين ماء باردة، فاغتسل منها وشرب، فأذهب الله عنه ما به من الأذى. * (وآتيناه أهله) * أي: رددنا عليه أهله وماله. * (ومثلهم معهم) * بأن منحه الله العافية، ومن الأهل والمال شيئا كثيرا. * (رحمة من عندنا) * به، حيث صبر ورضي، فأثابه الله ثوابا عاجلا، قبل ثواب الآخرة. * (وذكرى للعابدين) * أي: جعلناه عبرة للعابدين، الذين ينتفعون بالصبر، فإذا رأوا ما أصاب أيوب عليه السلام من البلاء، ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا السبب، وجدوه، الصبر، ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: * (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) *، فجعلوه أسوة وقدوة، عندما يصيبهم الضر. * (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) * أي: واذكر عبادنا المصطفين، وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر، وأثن عليهم، أبلغ الثناء، إسماعيل بن إبراهيم، وإدريس، وذا الكفل، نبيين من أنبياء بني إسرائيل * (كل) * من هؤلاء المذكورين * (من الصابرين) *، والصبر هو: حبس النفس ومنعها، مما تميل بطبعها إليه، وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يستحق العبد اسم الصبر التام، حتى يوفي هذه الثلاثة حقها. فهؤلاء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قد وصفهم الله بالصبر، فدل أنهم وفوها حقها، وقاموا بها، كما ينبغي، ووصفهم أيضا بالصلاح، وهو يشمل صلاح القلب، بمعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه كل وقت، وصلاح اللسان، بأن يكون رطبا من ذكر الله، وصلاح الجوارح، باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي. فبصبرهم وصلاحهم، أدخلهم الله برحمته، وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين، وأثابهم الثواب العاجل والآجل. ولو لم يكن من ثوابهم، إلا أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، لكفى بذلك شرفا وفضلا. * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إل ه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننج ي المؤمنين) * أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو : يونس، أي: صاحب النون، وهي الحوت، بالذكر الجميل، والثناء الحسن، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم، فلم يؤمنوا، فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم. فجاءهم العذاب ورأوه عيانا، فعجوا إلى الله، وضجوا وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى: * (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) * (وقال) * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين) *. وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله، ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها لقوله. * (إذ أبق إلى الفلك... وهو مليم) * أي: فاعل ما يلام عليه، وظن أن الله، لا يقدر عليه، أي: يضيق عليه في بطن الحوت، أو ظن أنه سيفوت الله تعالى، ولا مانع من عروض هذا الظن للكل من الخلق على وجه لا يستقر، ولا يستمر عليه، فركب في السفينة مع أناس، فاقترعوا، من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم، فأصابت القرعة يونس، فالتقمه الحوت، وذهب فيه إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات: * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *، فأقر لله تعالى بكمال الألوهية، ونزهه عن كل نقص، وعيب، وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته. قال الله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) *. ولهذا قال هنا:
(٥٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 524 525 526 527 528 529 530 531 532 535 536 ... » »»