تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٤٧
والسجود، لفضلهما وركنيتهما، وعبادته التي هي قرة العيون، وسلوة القلب المحزون، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة، ويأمرهم بفعل الخير عموما. وعلق تعالى، الفلاح على هذه الأمور فقال: * (لعلكم تفلحون) *. أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح، سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن وفق لذلك، فله القدح المعلى، من السعادة، والنجاح والفلاح. * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * والجهاد بذل الوسع، في حصول الغرض المطلوب. فالجهاد في الله حق جهاده، هو القيام التام بأمر الله، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك، من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر، ووعظ، وغير ذلك. * (هو اجتباكم) * أي: اختاركم يا معشر المسلمين من بين الناس، واختار لكم الدين، ورضيه لكم، واختار لكم أفضل الكتب، وأفضل الرسل. فقابلوا هذه المنحة العظيمة، بالقيام بالجهاد فيه حق القيام. ولما كان قوله: * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * ربما توهم متوهم أن هذا، من باب تكليف ما لا يطاق، أو تكليف ما يشق، احترز منه بقوله: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * أي: مشقة وعسر، بل يسره غاية التيسير، وسهله بغاية السهولة، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس، لا يثقلها، ولا يؤودها، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خفف ما أمر به. إما بإسقاطه، أو إسقاط بعضه. ويؤخذ من هذه الآية، قاعدة شرعية وهي أن (المشقة تجلب التيسير) و (الضرورات تبيح المحظورات)، فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية، شيء كثير معروف في كتب الأحكام. * (ملة أبيكم إبراهيم) * أي: هذه الملة المذكورة، والأوامر المزبورة، ملة أبيكم إبراهيم، التي ما زال عليها، فالزموها واستمسكوا بها. * (هو سماكم المسلمين من قبل) * أي: في الكتب السابقة، أنتم مذكورون ومشهورون أي: بأن إبراهيم سماكم: مسلمين. * (وفي هذا) * أي: هذا الكتاب، وهذا الشرع. أي: ما زال هذا الاسم لكم قديما وحديثا. * (ليكون الرسول شهيدا عليكم) * بأعمالكم خيرها وشرها * (وتكونوا شهداء على الناس) * لكونكم خير أمة أخرجت للناس، أمة وسطا عدلا خيارا. تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم، وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه. * (فأقيموا الصلاة) * بأركانها وشروطها، وحدودها، وجميع لوازمها. * (وآتوا الزكاة) * المفروضة لمستحقيها شكرا لله، على ما أولاكم. * (واعتصموا بالله) * أي: امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك، ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم. * (هو مولاكم) * الذي يتولى أموركم، فيدبركم بحسن تدبيره، ويصرفكم على أحسن تقديره. * (فنعم المولى ونعم النصير) * أي: نعم المولى لمن تولاه، فحصل له مطلوبه * (ونعم النصير) * لمن استنصره فدفع عنه المكروه. ثم تفسير سورة الحج، والحمد لله رب العالمين. سورة المؤمنون * (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزك اة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأول ئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أول ئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) * هذا تنويه من الله، يذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك، وفي ضمن ذلك، الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب فيها. فليزن العبد نفسه، وغيره، على هذه الآيات، يعرف بذلك، ما معه، وما مع غيره، من الإيمان، زيادة ونقصا، كثرة وقلة. فقوله: * (قد أفلح المؤمنون) * أي: قد فازوا وسعدوا ونجحوا، وأدركوا كل ما يروم المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم الكاملة أنهم * (في صلاتهم خاشعون) *. والخشوع في الصلاة هو: حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته ويقل التفاته، متأدبا بين يدي ربه، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك، الوساوس والأفكار الردية. وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد. فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإن كانت مجزية مثابا عليها، فإن الثواب على
(٥٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 542 543 544 545 546 547 548 549 550 551 552 ... » »»