تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٧٨
وشره، ولهذا قال: * (ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) *. قال الله تعالى: * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا) *، أي: لما نزل العذاب بجنته، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه: * (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) * فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا، أشد ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفسه منتصرا، وكيف ينتصر، أو يكون له انتصارا، على قضاء الله وقدره، الذي إذا أمضاه وقدره، لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه، لم يقدروا؟ ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه، أن صاحب هذه الجنة، التي أحيط بها، تحسنت حاله، ورزقه الله الإنابة إليه، وراجع رشده، وذهب تمرده وطغيانه، بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه، وعاقبه في الدنيا، وإذا أرادا الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا. وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول، ولا ينكره إلا ظالم جهول. * (هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) * أي: في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى، وآثر الحياة الدنيا، والكرامة لمن آمن، وعمل صالحا، وشكر الله، ودعا غيره، لذلك تبين وتوضح، أن الولاية الحق، لله وحده. فمن كان مؤمنا به تقيا، كان له وليا، فأكرمه بأنواع الكرامات، ودفع عنه الشرور والمثلات، ومن لم يؤمن بربه، ولم يتولاه، خسر دينه ودنياه، فثوابه الدينوي والأخروي، خير ثواب يرجى ويؤمل. ففي هذه القصة العظيمة، اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية، فألهته عن آخرته وأطغته، وعصى الله فيها، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع بها قليلا، فإنه يحرمها طويلا، وأن العبد، ينبغي له إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها، وأن يقول: (ما شاء الله، لا قوة إلا بالله) ليكون شاكرا متسببا لبقاء نعمته عليه، لقوله: * (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) *. وفيها، الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها، بما عند الله من الخير لقوله: * (إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك) *، وفيها أن المال والولد لا ينفعان، إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا) *. وفيه الدعاء بتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصا إن فضل نفسه بسببه، على المؤمنين، وفخر عليهم. وفيها، أن ولاية الله وعدمها، إنما تتضح نتيجتها، إذا انجلى الغبار وحق الجزاء، ووجد العاملون أجرهم ف * (هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) * أي: عاقبة ومالا. * (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) * يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، أصلا، ولمن قام بوراثته بعده تبعا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا، ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار. وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، أو تنبت من كل زوج بهيج. فبينا زهرتها، وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيما، تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب. كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها، قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله. فذهب عنه سروره، وزالت لذته، وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته، وماله وانفرد بصالح، أو سيىء أعماله. هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات. فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: (قدري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها ظليل، وفيها ما
(٤٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 473 474 475 476 477 478 479 480 481 482 483 ... » »»