تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟)، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه. ولهذا أخبر تعالى، أن المال والبنين، زينة الحياة الدنيا، أي: ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره، الباقيات الصالحات. وهذا يشمل جميع الطاعات، الواجبة، والمستحبة، من حقوق الله، وحقوق عباده، من صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر الوالدين، وقيام بحق الزوجات، والمماليك، والبهائم، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا، فثوابها يبقى، ويتضاعف على الآباد، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها، عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون. وتأمل، كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها، ذكر أن الذي فيها نوعان: نوع من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون. ونوع يبقى لصاحبه على الدوام، وهي: الباقيات الصالحات. * (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يويلتنا ما له ذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * يخبر تعالى عن حال يوم القيامة، وما فيه من الأهوال المقلقة، والشدائد المزعجة فقال: * (ويوم نسير الجبال) * أي: يزيلها عن أماكنها، يجعلها كثيبا، ثم يجعلها كالعهن المنفوش ثم تضمحل وتتلاشى، وتكون هباء منبثا، وتبرز الأرض، فتصير قاعا صفصفا، لا عوج فيه ولا أمتا. ويحشر الله جميع الخلق، على تلك الأرض، فلا يغادر منهم أحدا. بل يجمع الأولين والآخرين، من بطون الفلوات، وفغور البحار، ويجمعهم بعدما تفرقوا، ويعيدهم، بعد ما تمزقوا، خلقا جديدا، فيعرضون عليه صفا، ليستعرضهم، وينظر في أعمالهم، ويحكم فيهم، بحكمه العدل، الذي لا جور فيه ولا ظلم، ويقول لهم: * (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) * أي: بلا مال، ولا أهل، ولا عشيرة، ما معهم إلا الأعمال، التي عملوها، والمكاسب في الخير والشر، التي كسبوها. كما قال تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) *. وقال هنا، مخاطبا للمنكرين للبعث، وقد شاهدوه عيانا: * (بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) * أي: أنكرتم الجزاء عن الأعمال، ووعد الله، ووعيده فيها، قد رأيتموه وذقتموه، فحينئذ تحضر كتب الأعمال التي كتبها الملائكة الأبرار، فتطير لها القلوب، وتعظم من وقعها، الكروب، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب، ويشفق منها المجرمون، فإذا رأوها مسطرة عليهم أعمالهم، محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم، قالوا: * (يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * أي: لا يترك خطيئة، صغيرة ولا كبيرة، إلا وهي مكتوبة فيه، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية، ولا ليل ولا نهار. * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * لا يقدرون على إنكاره * (ولا يظلم ربك أحدا) *، فحينئذ يجازون بها، ويقررون بها، ويخزون، ويحق عليهم العذاب، * (ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد) * بل هم غير خارجين عن عدله وفضله. * (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) * يخبر الله تعالى، عن عداوة إبليس لآدم وذريته، وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، إكراما وتعظيما، وامتثالا لأمر الله، فامتثلوا ذلك * (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * وقال: * (أأسجد لمن خلقت طينا) * وقال: * (أنا خير منه) *، فتبين بهذا، عداوته لله ولأبيكم، فكيف تتخذونه وذريته أي: الشياطين * (أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) *، أي: بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته. وفي هذه الآية، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا، والإغراء بذلك، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم، وأي ظلم، أعظم من ظلم من اتخذه عدوه الحقيقي، وليا، وترك الولي الحميد؟!!
(٤٧٩)