تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٨١
قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا * وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا * وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) * يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب ورغب، فأعرض عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب، فهذا أعظم ظلما، من المعرض الذي لم تأته آيات الله، ولم يذكر بها، وإن كان ظالما، فإنه أشد ظلما من هذا، لكون العاصي على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك. ولكن الله تعالى، عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه، حالة الشر، مع علمه بها أن سد عليه أبواب الهداية، بأن جعل على قلبه أكنة، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعها، فليس في إمكانه، الفقه الذي يصل إلى القلب. * (وفي آذانهم وقرا) * أي: صمما يمنعهم من وصول الآيات، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإن كانوا بهذه الحالة، فليس لهدايتهم سبيل. * (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) * لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى، من ليس عالما، وأما هؤلاء، الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال فسلكوا، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق. وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه، وأن يحال بينه وبينه، ولا يتمكن منه بعد ذلك، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك. ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته، وأنه يغفر الذنوب، ويتوب الله على من يتوب، فيتغمده برحمته، ويشمله بإحسانه، وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب، لعجل لهم العذاب، ولكنه تعالى، حليم لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل، ولا يهمل، والذنوب لا بد من وقوع آثارها، وإن تأخرت عنها مدة طويلة، ولهذا قال: * (بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) * أي: لهم موعد، يجازون فيه بأعمالهم، لا بد لهم منه، ولا مندوحة لهم عنه، ولا ملجأ، ولا محيد عنه. وهذه سنته في الأولين والآخرين، أن لا يعاجلهم بالعقاب، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة، فإن تابوا وأنابوا، غفر لهم ورحمهم، وأزال عنهم العقاب، وإلا، فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم، أنزل بهم بأسه، ولهذا قال: * (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) * أي: بظلمهم، لا بظلم منا * (وجعلنا لمهلكهم موعدا) * أي: وقتا مقدرا، لا يتقدمون عنه، ولا يتأخرون. * (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا ه ذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا * قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا * فوجدا عبدا من عبادنآ آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال ه ذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زك اة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسط ع عليه صبرا) * يخبر تعالى، عن نبيه، موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه، أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو (يوشع بن نون) الذي نبأه الله بعد ذلك: * (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) * أي: لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو: المكان الذي أوحى إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك. * (أو أمضي حقبا) * أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه. * (فلما بلغا) * أي: هو وفتاه * (مجمع بينهما نسيا حوتهما) * وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد، الذي قصدته، فاتخذ ذلك الحوت سبيله، أي: طريقه في البحر سربا وهذا من الآيات. قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه، لما وصلا إلى ذلك المكان، أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حيا. فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين، قال موسى لفتاه: * (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * أي: لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط، وإلا فالسفر الطويل، الذي وصلا به إلى مجمع البحرين، لم يجدا من التعب فيه، وهذا من الآيات والعلامات، الدالة لموسى، على وجود مطلبه، وأيضا، فإن
(٤٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 476 477 478 479 480 481 482 483 484 485 486 ... » »»