الخضر منه، فقال له: * (هذا فراق بيني وبينك) * فإنك شرطت ذلك على نفسك، فلم يبق الآن عذر، ولا موضع للصحبة. * (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * أي: سأخبرك بما أنكرت علي، وأنبئك بأن لي في ذلك من المآرب، وما يؤول إليه الأمر. * (أما السفينة) * التي خرقتها * (فكانت لمساكين يعملون في البحر) * يقتضي ذلك الرقة عليهم، والرأفة بهم. * (فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * أي: كان مرورهم على ذلك الملك الظالم، فكل سفينة صالحة تمر عليه، ما فيها عيب، غصبها وأخذها ظلما، فأردت أن أخرقها، ليكون فيها عيب، فتسلم من ذلك الظالم. * (وأما الغلام) * الذي قتلته * (فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) *، وكان ذلك الغلام، قد قدر عليه، أنه لو بلغ، لأرهق أبويه طغيانا وكفرا. أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه يحملهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟ وهو إن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه، ولهذا قال: * (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما) * أي: ولدا صالحا، زكيا، وأصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل، لو بلغ لعقهما أشد العقوق، بحملهما على الكفر والطغيان. * (وأما الجدار) * الذي أقمته * (فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا) * أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما، لكونهما صغيرين، عدما أباهما، وحفظهما الله أيضا، بصلاح والدهما. * (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما) * أي: فلهذا هدمت الجدار، واستخرجت ما تحته من كنزهما، ورددته، وأعدته مجانا. * (ورحمة من ربك) * أي: هذا الذي فعلته رحمة من الله، آتاها الله عبده الخضر * (وما فعلته عن أمري) * أي: ما أتيت شيئا من قبل نفسي، ومجرد إرادتي، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره. * (ذلك) * الذي فسرته لك * (تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) *. وفي هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد، والأحكام، والقواعد، شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله. فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى عليه السلام، رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك. ومنها: البداءة بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان، أهم من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم، من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل. ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى. ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره، فوائد من الاستعداد له، واتخاذ عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهار الشوق لهذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: * (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا) *. وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أصحابه حين غزا تبوك، بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة. ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) *. ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب وجوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: * (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) *. ومنها: استحباب كون خادم الإنسان، ذكيا فطنا كيسا، ليتم له أمره الذي يريده. ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا، لأن ظاهر قوله: * (آتنا غداءنا) * إضافة إلى الجميع، أنه أكل هو، وهو جميعا. ومنها: أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله، يعان ما لا يعان غيره لقوله: * (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * والإشارة إلى السفر المجاوز، لمجمع البحرين. وأما الأول، فلم يشتك منه التعب، مع طوله، لأنه هو السفر على الحقيقة. وأما الأخير، فالظاهر أنه بعض يوم، لأنهم فقدوا الحوت حتى أووا إلى الصخرة. فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه: * (آتنا غداءنا) *، فحينئذ تذكر أنه
(٤٨٣)