* (فمن شاء فليؤمن من شاء فليكفر) * أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين، بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه، وقد أعطاه الله مشيئة، بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشر فمن آمن، فقد وفق للصواب، ومن كفر، فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان كما قال تعالى: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) *. ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال: * (إنا اعتدنا للظالمين) * بالكفر والفسوق والعصيان * (نارا أحاط بهم سرادقها) * أي: سورها المحيط بها. فليس لهم منفذ، ولا طريق، ولا مخلص منها، تصلاهم النار الحامية. * (وإن يستغيثوا) * أن يطلبوا الشراب، ليطفىء ما نزل بهم من العطش الشديد. * (يغاثوا بماء كالمهل) * أي: كالرصاص المذاب، أو كعكر الزيت، من شدة حرارته. * (يشوي الوجوه) * أي: فكيف بالأمعاء والبطون، كما قال تعالى: * (يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد) *. * (بئس الشراب) * الذي يراد ليطفىء العطش، ويدفع بعض العذاب، فيكون زيادة في عذابهم، وشدة عقابهم. * (وساءت) * النار * (مرتفقا) * وهذا ذم لحالة النار، أنها ساءت المحل، الذي يرتفق به. فإنها ليس فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق، الذي لا يفتر عنهم ساعة، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير، ونسيهم الرحيم في العذاب، كما نسوه. ثم ذكر الفريق الثاني فقال: * (إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات) * أي: جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر، خيره، وشره، وعمل الصالحات، من الواجبات والمستحبات * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) *. وإحسان العمل، أن يريد العبد العمل لوجه الله، متبعا في ذلك شرع الله. فهذا العمل لا يضيعه الله، ولا شيئا منه، بل يحفظه للعاملين، ويوفيهم من الأجر، بحسب عملهم وفضله وإحسانه، وذكر أجرهم بقوله: * (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك) *. أي: أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها، فأجنت من فيها، وكثرت أنهارها، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة، والمنازل الرفيعة. وحليتهم فيها، الذهب، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس، وهو الغليظ من الديباج، والإستبرق، وهو: ما رق منه. متكئين فيها على الأرائك وهي: السرر المزينة، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة، حتى تكون كذلك. وفي اتكائهم على الأرائك، ما يدل على كمال الراحة، وزوال النصب والتعب، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون، وتمام ذلك، الخلود الدائم والإقامة الأبدية. فهذه الدار الجليلة * (نعم الثواب) * للعاملين * (وحسنت مرتفقا) * يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها، مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور، والفرح الدائم، واللذات المتواترة، والنعم المتوافرة. وأي مرتفق، أحسن من دار، أدنى أهلها، يسير في ملكه ونعيمه، وقصوره وبساتينه، ألفي سنة ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم. قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه، وزيد من المطالب، ما قصرت عنه الأماني. ومع ذلك، فنعيهم على الدوام، متزايد في أوصافه وحسنه. فنسأل الله الكريم، أن لا يحرمنا خير ما عنده، من الإحسان، بشر ما عندنا من التقصير والعصيان. ودلت الآية الكريمة، وما أشبهها، على أن الحلية، عامة للذكور والإناث، كما ورد في الأخبار الصحيحة لأنه أطلقها في قوله: * (يحلون) * وكذلك الحرير ونحوه. * (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا) * يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك، من العقاب العاجل، والآجل، والثواب ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي زمان أو مكان هما، فيه فائدة أو نتيجة. فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك، من التكلف. فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة، جعل الله له جنتين أي: بساتين حسنين، من أعناب. * (وحففناهما بنخل) * أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصا أشرف الأشجار، العنب، والنخل. فالعنب، وسطها، والنخل، قد حف بذلك، ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح، التي تكمل لها الثمار، وتنضج وتتجوهر، ومع ذلك، جعل بين تلك الأشجار زرعا. فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى، أن كلا من الجنتين آتت أكلها أي: ثمرها وزرعها ضعفين أي: متضاعفا * (و) * أنها * (لم تظلم منه شيئا) * أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء. ومع ذلك، فالأنهار في جوانبهما سارحة، كثيرة غزيرة. * (وكان له) * أي: لذلك الرجل * (ثمر) * أي: عظيم كما يفيده التنكير أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما،
(٤٧٦)