تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٧٧
وأرجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث، ولهذا اغتر هذا الرجل، وتبجح وافتخر، ونسي آخرته. * (وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد ه ذه أبدا * ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) * أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان الكلام بينهما في بعض المجريات المعتادة، مفتخرا عليه. * (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) * فخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره، من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه. وإلا فأي افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزلة فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها. ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته. ف * (قال ما أظن أن تبيد) * أي: تنقطع وتضمحل * (هذه أبدا) *، فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضي بها، وأنكر البعث، فقال: * (وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي) * على ضرب المثل * (لأجدن خيرا منها منقلبا) * أي: ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين. إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي تلازم بين عطاء الدنيا، وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله، أن من أعطي في الدنيا، أعطي في الآخرة. بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه، الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: * (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه) *. فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده. * (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا) * أي: قال له صاحبه المؤمن ناصحا له، ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا * (من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) *، فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة، والمعقولة، وبذلك يسر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ، من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا، بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم سواك رجلا وتجهل نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك، هذا مما لا ينبغي ولا يليق. ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن، حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه: * (لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا) *. فأقر بربوبية ربه، وانفراده فيها، والتزام طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك له أحدا من المخلوقين. ثم أخبر أن نعمة الله عليه، بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة ماله وولده أنها، هي النعمة الحقيقية، وأن ما عداها، معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال، فقال: * (إن ترن أنا أقل) * إلى * (وخير عقبا) *.
أي: قال للكافر صاحبه المؤمن: أنت وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك، ورأيتني أقل منك مالا وولدا فإن ما عند الله، خير وأبقى، وما يرجى من خيره وإحسانه، أفضل من جميع الدنيا، التي يتنافس فيه المتنافسون. * (فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) * * (فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها) * أي: على جنتك التي طغيت بها وغرتك * (حسبانا من السماء) * أي: عذابا، بمطر عظيم أو غيره. * (فتصبح) * بسبب ذلك * (صعيدا زلقا) * أي: قد اقتلعت أشجارها، وتلفت ثمارها، وغرق زرعها، وزال نفعها. * (أو يصبح ماؤها) * الذي مادتها منه * (غورا) * أي: غائرا في الأرض * (فلن تستطيع له طلبا) * أي: غائرا لا يستطاع الوصول إليه، بالمعاول ولا بغيرها. وإنما دعا على جنته المؤمن، غضبا لربه، لكونها غرته وأطغته، واطمأن إليها، لعله ينيب، ويراجع رشده، ويتبصر في أمره. فاستجاب الله دعاءه * (وأحيط بثمره) * أي: أصابه عذاب، أحاط به، واستهلكه، فلم يبق منه شيء، والإحاطة بالثمر، يستلزم تلف جميع أشجاره، وثماره، وزرعه، فندم كل الندامة، واشتد لذلك أسفه، * (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها) * أي: على كثرة نفقاته الدنيوية عليها، حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عوض، وندم أيضا على شركه،
(٤٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 472 473 474 475 476 477 478 479 480 481 482 ... » »»