تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٨٢
الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان، سهل لهما الطريق، فلما تجاوزا غايتهما، وجدا مس التعب، فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة، قال له فتاه: * (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * لأنه السبب في ذلك * (واتخذ سبيله في البحر عجبا) * أي: لما انسرب في البحر، ودخل فيه، كان ذلك من العجائب. قال المفسرون: كان ذلك المسلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فلما قال له الفتى هذا القول، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت، وجد الخضر، فقال موسى: * (ذلك ما كنا نبغ) * أي: نطلب * (فارتدا) * أي: رجعا * (على آثارهما قصصا) * أي: رجعا يقصان أثرهما، الذي نسيا فيه الحوت، فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا صالحا، لا نبيا على الصحيح. * (آتيناه رحمة من عندنا) * أي: أعطاه الله رحمة خاصة، بها زاد علمه، وحسن عمله * (وعلمناه من لدنا) * أي: من عندنا * (علما) *، وكان قد أعطي من العلم، ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية، والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك، فلما اجتمع به موسى، قال له، على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه: * (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) * أي: على أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة، ما به يحصل له الاطلاع، على بواطن كثير من الأشياء، التي خفيت، حتى على موسى عليه السلام، فقال الخضر لموسى: لا أمتنع من ذلك، ولكنك * (لن تستطيع معي صبرا) * أي: لا تقدر على اتباعي وملازمتي، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور، التي ظاهرها المنكر، وباطنها غير ذلك، ولهذا قال: * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * أي: كيف تصبر على أمر، ما أحطت بباطنه وظاهره ولا علمت المقصود منه ومآله؟ فقال موسى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) * وهذا عزم منه، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به، والعزم شيء، ووجود الصبر شيء آخر، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر. فحينئذ قال له الخضر: * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) * أي: لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به، فنهاه عن سؤاله، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر. * (فانطلقنا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) * أي: اقتلع الخضر منها، لوحا، وكان له مقصود في ذلك، سيبينه، فلم يصبر موسى عليه السلام، لأن ظاهره أنه منكر، لأنه عيب للسفينة، وسبب لغرق أهلها، ولهذا قال موسى: * (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا) * أي: عظيما شنيعا، وهذا من عدم صبره عليه السلام، فقال له الخضر: * (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) * أي: فوقع كما أخبرتك، وكان هذا من موسى، نسيانا فقال: * (لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) * أي: لا تعسر علي الأمر، واسمح لي، فإن ذلك وقع على وجه النسيان، فلا تؤاخذني في أول مرة. فجمع بين الإقرار به والعذر منه، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر، الشدة على صاحبك، فسمح عنه الخضر. * (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما) * أي: صغيرا * (فقتله) * الخضر، فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا، لم يذنب. * (قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا) *. وأي نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحد؟ وكان الأول من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبر، فقال له الخضر، معاتبا ومذكرا: * (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) *. فقال له موسى: * (إن سألتك عن شيء بعدها) * أي: بعد هذه المرة * (فلا تصاحبني) * أي: فأنت معذور بذلك، وبترك صحبتي * (قد بلغت من لدني عذرا) * أي: أعذرت مني، ولم تقصر. * (فانطلقاحتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) * أي: استضافاهم * (فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) * أي: عاب واستهدم * (فأقامه) * الخضر أي: بناه وأعاده جديدا. فقال له موسى: * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) *، أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها؟ فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال، واستعذر
(٤٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 477 478 479 480 481 482 483 484 485 486 487 ... » »»