ولا تستفت فيهم منهم أحدا) * يخبر تعالى، عن اختلاف أهل الكتاب، في عدة أصحاب الكهف، اختلافا، صادرا عن رجمهم بالغيب، وتقولهم بما لا يعلمون، وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال: منهم: من يقول: ثلاثة، رابعهم كلبهم، ومنهم من يقول: خمسة، سادسهم كلبهم. وهذان القولان، ذكر الله بعدهما، أن هذا رجم منهم بالغيب، فدل على بطلانهما. ومنهم من يقول: سبعة، وثامنهم كلبهم، وهذا والله أعلم هو الصواب، لأن الله أبطل الأولين، ولم يبطله، فدل على صحته. وهذا من الاختلاف، الذي لا فائدة تحته، ولا يحصل بمعرفة عددهم، مصلحة للناس، دينية، ولا دنيوية، ولهذا قال تعالى: * (قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) * وهم الذين، أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم. * (فلا تمار) * تجال وتحاج فيهم * (إلا مراء ظاهرا) * أي: مبنيا على العلم واليقين، ويكون أيضا فيه فائدة، وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب، أو التي لا فائدة فيها. إما أن يكون الخصم معاندا، أو تكون المسألة لا أهمية فيها، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها، كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك، فإن في كثرة المناقشات فيها، والبحوث المتسلسلة، تضييعا للزمان، وتأثيرا في مودة القلوب بغير فائدة. * (ولا تستفت فيهم) * أي: في شأن أهل الكهف * (منهم) * أي: من أهل الكتاب * (أحدا) * وذلك لأن مبنى كلامهم فيهم على الرجم بالغيب والظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ففيها دليل على المنع من استفتاء من لا يصلح للفتوى، إما لقصوره في الأمر المستفتى فيه، أو لكونه لا يبالي بما تكلم به، وليس عنده ورع يحجزه. وإذا نهى عن استفتاء هذا الجنس، فنهيه هو عن الفتوى، من باب أولى وأحرى. وفي الآية أيضا، دليل على أن الشخص، قد يكون منهيا عن استفتائه في شيء، دون آخر. فيستفتى فيما هو أهل له، بخلاف غيره، لأن الله لم ينه عن استفتائهم مطلقا، إنما نهى عن استفتائهم في قصة أصحاب الكهف، وما أشبهها. * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من ه ذا رشدا) * هذا النهي كغيره، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الخطاب عام للمكلفين، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة * (إني فاعل ذلك) * من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور، وهو: الكلام على الغيوب المستقبلة، التي لا يدري، هل يفعلها أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) * ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه، ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو عن ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب، ويندفع المحذور. ويؤخذ من عموم قوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه. وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين. ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة، وعدم الخطأ، في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول: * (عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) *، فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره. * (ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) * لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب، في شأن أهل الكهف لعدم علمهم بذلك، وكان الله، عالم الغيب والشهادة، العالم بكل شيء أخبره الله بمدة لبثهم، وأن علم ذلك، عنده وحده، فإنه من غيب السماوات والأرض، وغيبها مختص به، فما أخبر به عنها على ألسنة رسله، فهو الحق اليقين، الذي لا شك فيه، وما لا يطلع رسله عليه، فإن أحدا من الخلق، لا يعلمه. وقوله: * (أبصر به وأسمع) * تعجب من كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات، بعدما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات. ثم أخبر عن
(٤٧٤)