لكلمات ربي) * أي: وأشجار الدنيا، من أولها إلى آخرها، من أشجار البلدان والبراري، والبحار، أقلام، * (لنفد البحر) * وتكسرت الأقلام * (قبل أن تنفد كلمات ربي) * وهذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد. وفي الآية الأخرى * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) *. وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية، وأما كلام الله، فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب، فالله فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله تعالى، كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته، فلو جمع علم الخلائق، من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم، أقل من نسبة عصفور، وقع على حافة البحر، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته، ذلك بأن الله، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى. * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنمآ إل هكم إل ه واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * أي: * (قل) * يا محمد للكفار وغيرهم: * (إنما أنا بشر مثلكم) * أي: لست بإله، ولا لي شركة في الملك، ولا علم بالغيب، ولا عندي خزائن الله. * (إنما أنا بشر مثلكم) * عبد من عبيد ربي، * (يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) * أي: فضلت عليكم بالوحي، الذي يوحيه إلي، الذي أجله الإخبار لكم، أنما إلهكم إله واحد، أي: لا شريك له، ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة، وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه، وينيلكم ثوابه، ويدفع عنكم عقابه. ولهذا قال: * (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) * وهو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب. * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * أي: لا يرائي بعمله، بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب، وأما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه وأخراه، وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه. آخر تفسير سورة الكهف، ولله الحمد. سورة مريم * (كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريآ * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورآئي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) * أي: هذا * (ذكر رحمة ربك عبده زكريا) * سنقصه عليك، ونفصله تفصيلا، يعرف به حالة نبيه زكريا، وآثاره الصالحة، ومناقبه الجميلة، فإن في قصها عبرة للمعتبرين، وأسوة للمتقدين، ولأن في تفصيل رحمته لأوليائه، وبأي سبب حصلت لهم، مما يدعو إلى محبة الله تعالى، والإكثار من ذكره ومعرفته، والسبب الموصل إليه. وذلك أن الله تعالى، اجتبى واصطفى، زكريا عليه السلام لرسالته، وخصه بوحيه، فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين، ودعا العباد إلى ربه، وعلمهم ما علمه الله، ونصح لهم في حياته وبعد مماته، كإخوانه من المرسلين، ومن اتبعهم، فلما رأى من نفسه الضعف، وخاف أن يموت، ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم، شكا إلى ربه ضعفه الظاهر والباطن، وناداه نداء خفيا، ليكون أكمل، وأفضل، وأتم إخلاصا فقال: * (رب إني وهن العظم مني) * أي: وهي وضعف، وإذا ضعف العظم، الذي هو عماد البدن، ضعف غيره. * (واشتعل الرأس شيبا) * لأن الشيب دليل الضعف والكبر، ورسول الموت، ورائده ونذيره. فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه، وهذا من أحب الوسائل إلى الله، لأنه يدل التبري من الحول والقوة، وتعلق القلب بحول الله وقوته. * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * أي: لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة، بل لم تزل بي حفيا، ولدعائي مجيبا، ولم تزل ألطافك تتوالى علي، وإحسانك واصلا إلي، وهذا توسل إلى الله، بإنعامه عليه، وإجابة دعواته السابقة، فسأل الذي أحسن سابقا، أن يتمم إحسانه لاحقا. * (وإني خفت الموالي من ورائي) * أي: وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي، أي: لا يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك. وظاهر هذا، أنه لم ير فيهم أحدا، فيه لياقة للإمامة في الدين، وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلام، ونصحه. وأن طلبه للولد، ليس كطلب غيره، قصده مجرد المصلحة الدنيوية، وإنما قصده، مصلحة الدين، والخوف من ضياعه، ورأى غيره، غير صالح لذلك. وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين، ومعدن الرسالة، ومظنة للخير، فدعا الله أن يرزقه ولدا، يقوم بالدين
(٤٨٩)