تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٧٣
* (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) * يقول تعالى: * (وكذلك بعثناهم من نومهم الطويل، ليتساءلوا بينهم) *، أي: ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة، من مدة لبثهم. * (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * وهذا مبني على ظن القائل، وكأنهم وقع عندهم اشتباه. في طول مدتهم، فلهذا * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) *. فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء، جملة وتفصيلا. ولعل الله تعالى بعد ذلك أطلعهم على مدة لبثهم، لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم، وأخبر أنهم تساءلوا، وتكلموا بمبلغ ما عندهم، وصار آخر أمرهم، الاشتباه. فلا بد أن يكون قد أخبرهم يقينا، علمنا ذلك من حكمته في بعثهم، وأنه لا يفعل ذلك عبثا. ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها، وسعى لذلك ما أمكنه، فإن الله يوضح له ذلك، وبما ذكر فيما بعده من قوله. * (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها) *. فلولا أنه حصل العلم بحالهم، لم يكونوا دليلا على ما ذكر، ثم إنهم لما تساءلوا بينهم، وجرى منهم ما أخبر الله به، أرسلوا أحدهم بورقهم، أي: بالدراهم، التي كانت معهم، ليشتري لهم طعاما يأكلونه، من المدينة، التي خرجوا منها، وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه، أي: أطيبه وألذه، وأن يتلطف في ذهابه وشرائه، وإيابه، وأن يختفي في ذلك، ويخفي حال إخوانه، ولا يشعرن بهم أحدا. وذكروا المحذور من اطلاع غيرهم عليهم، وظهورهم عليهم، أنهم بين أمرين، إما الرجم بالحجارة، فيقتلونهم أشنع قتلة، لحنقهم عليهم وعلى دينهم، وإما أن يفتنوهم عن دينهم، ويردوهم في ملتهم. وفي هذه الحال، لا يفلحون أبدا، بل يخسرون في دينهم ودنياهم وأخراهم، وقد دلت هاتان الآيتان، على عدة فوائد منها: الحث على العلم، وعلى المباحثة فيه، لكون الله بعثهم لأجل ذلك. ومنها: الأدب فيمن اشتبه عليه العلم، أن يرده إلى عالمه، وأن يقف عند حده. ومنها: صحة الوكالة في البيع والشراء، وصحة الشركة في ذلك. ومنها: جواز أكل الطيبات، والمطاعم اللذيذة، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله: * (فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم رزق منه) *. وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك. ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين، القائلين بأن هؤلاء، أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة، التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها. ومنها: الحث على التحرز، والاستخفاء، والبعد عن مواقع الفتن في الدين، واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين. ومنها: شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين، وفرارهم من كل فتنة، في دينهم، وتركهم أوطانهم في الله. ومنها: ذكر ما اشتمل عليه الشر، من المضار والمفاسد، الداعية لبغضه، وتركه. وأن هذه الطريقة، هي طريقة المؤمنين المتقدمين، والمتأخرين لقولهم: * (ولن تفلحوا إذا أبدا) *. * (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) * يخبر الله تعالى، أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف، وذلك والله أعلم بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم، يشتري لهم طعاما، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء، فأرادا أمرا، فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم، زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين، وصار لهم أجر هذه القضية. وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم. * (قالوا ابنوا عليهم بنيانا) * الله أعلم بحالهم ومآلهم. وقال من غلب على أمرهم وهم الذين لهم الأمر: * (لنتخذن عليهم مسجدا) * أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم. وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها ولا يدل ذكرها هنا، على عدم ذمها، فإن السياق في شأن أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصل بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى. وفي هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية. عافاه الله، ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره. ومن تحمل الذل في سبيله، وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته، العز العظيم، من حيث لا يحتسب * (وما عند الله خير للأبرار) *. * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا
(٤٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 468 469 470 471 472 473 474 475 476 477 478 ... » »»