تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٤٧
شهيدا على ه ؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) * لما ذكر فيما تقدم أنه يبعث * (في كل أمة شهيدا) * ذكر ذلك أيضا هنا، وخص منهم هذا الرسول الكريم فقال: * (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) * أي: على أمتك تشهد عليهم بالخير والشر. وهذا من كمال عدل الله تعالى أن كل رسول يشهد على أمته، لأنه أعظم اطلاعا من غيره على أعمال أمته، وأعدل، وأشفق من أن يشهد عليهم إلا بما يستحقون. وهذا كقوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *. وقال تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة شهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض) * (وقوله) * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدارين، وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مبين فيه، أتم تبيين، بألفاظ واضحة، ومعان جلية. حتى إنه تعالى يثني فيه الأمور الكبار، التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت، وإعادتها في كل ساعة، ويعيدها، ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة، لتستقر في القلوب فتثمر من الخير والبر، بحسب ثبوتها في القلب. وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح، معاني كثيرة، يكون اللفظ لها، كالقاعدة والأساس. واعتبر هذا، بالآية التي بعد هذه الآية، وما فيها من أنواع الأوامر والنواهي، التي لا تحصى. فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء، صار حجة الله على العباد كلهم. فانقطعت به حجة الظالمين، وانتفع به المسلمون، فصار هدى لهم، يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة. فالهدى، ما نالوا به، من علم نافع، وعمل صالح. والرحمة، ما ترتب على ذلك من ثواب الدنيا والآخرة، كصلاح القلب وبره، وطمأنينته. وتمام العقل، الذي لا يتم إلا بتربيته على معانيه، التي هي أجل المعاني وأعلاها، والأعمال الكريمة والأخلاق الفاضلة، والرزق الواسع، والنصر على الأعداء بالقول والفعل، ونيل رضا الله تعالى، وكرامته العظيمة، التي لا يعلم ما فيها من النعيم المقيم، إلا الرب الرحيم. * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * فالعدل الذي أمر الله به، يشمل العدل في حقه، وفي حق عباده. فالعدل في ذلك، أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية، والمركبة منهما، في حقه، وحق عباده. ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء، ونواب الخليفة، ونواب القاضي. والعدل هو: ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات، أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك، فلا تبخس لهم حقا، ولا تغشهم، ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحبة، وذلك كنفع الناس، بالمال والبدن، والعلم، وغير ذلك من أنواع. النفع، حتى يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول، وغيره. وخص الله إيتاء ذوي القربى وإن كان داخلا في العموم لتأكد حقهم، وتعين صلتهم وبرهم، والحرص على ذلك. ويدخل في ذلك، جميع الأقارب، قريبهم، وبعيدهم، لكن كل من كان أقرب، كان أحق بالبر. وقوله: * (وينهى عن الفحشاء) * وهو: كل ذنب عظيم، استفحشته الشرائع والفطر، كالشرك بالله، والقتل بغير حق، والزنا، والسرقة، والعجب، والكبر، واحتقار الخلق، وغير ذلك من الفواحش. ويدخل في المنكر، كل ذنب ومعصية تتعلق بحق الله تعالى. وبالبغي، كل عدوان على الخلق، في الدماء، والأموال، والأعراض. فصارت هذه الآية، جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء، إلا دخل فيها، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات. فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي القربى، فهي مما أمر الله به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر، أو بغي، فهي مما نهى الله عنه. وبها يعلم حسن ما أمر الله به، وقبح ما نهى عنه. وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وترد إليها سائر الأحوال، فتبارك من جعل من كلامه، الهدى، والشفاء، والنور، والفرقان بين جميع الأشياء. ولهذا قال: * (يعظكم) * أي: بما بينه لكم في كتابه، بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ونهيكم عما فيه مضرتكم. * (لعلكم تذكرون) * ما يعظكم به، فتفهمونه وتعقلونه. فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه، عملتم بمقتضاه، فسعدتم سعادة لا شقاوة معها. فلما أمر بما هو واجب في أصل الشرع، أمر بوفاء ما أوجبه العبد على نفسه فقال:
(٤٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 442 443 444 445 446 447 448 449 450 451 452 ... » »»