الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ويبشرهم أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا. وأيضا، فإنه كلما نزل شيئا فشيئا، كان أعظم هداية وبشارة لهم، مما لو أتاهم جملة واحدة، وتفرق الفكر فيه، بل ينزل الله حكما وبشارة أكثر، فإذا فهموه وعقلوه، وعرفوا المراد منه، وترووا منه، أنزل نظيره وهكذا. ولذلك بلغ الصحابة رضي الله عنهم به مبلغا عظيما، وتغيرت أخلاقهم وطبائعهم، وانتقلوا إلى أخلاق، وعوائد، وأعمال، فاقوا بها الأولين والآخرين. وكان أعلى وأولى لمن بعدهم، أن يتربوا بعلومه، ويتخلقوا بأخلاقه، ويستضيئوا بنوره في ظلمات الغي والجهالات، ويجعلوه إمامهم في جميع الحالات، فبذلك، تستقيم أمورهم الدينية والدنيوية. * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وه ذا لسان عربي مبين * إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم * إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأول ئك هم الكاذبون) * يخبر تعالى عن قيل المشركين المكذبين لرسوله * (أنهم يقولون إنما يعلمه) * هذا الكتاب، الذي جاء به * (بشر) *. وذلك البشر، الذي يشيرون إليه أعجمي اللسان * (وهذا) * القرآن * (لسان عربي مبين) *، هل هذا القول ممكن؟ أو له حظ من الاحتمال؟ ولكن الكاذب يكذب، ولا يفكر فيما يؤول إليه كذبه، فيكون في قوله من التناقض والفساد، ما يوجب رده، بمجرد تصوره. * (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله) * الدالة دلالة صريحة على الحق المبين، فيردونها ولا يقبلونها. * (لا يهديهم الله) * حيث جاءهم الهدى، فردوه، فعوقبوا بحرمانه، وخذلان الله لهم. * (ولهم) * في الآخرة * (عذاب أليم) *. * (إنما يفتري الكذب) * أي: إنما يصدر افتراء الكذب، من * (الذين لا يؤمنون بآيات الله) * كالمعاندين لرسوله، من بعد ما جاءتهم البينات. * (وأولئك هم الكاذبون) * أي: الكذب منحصر فيهم، وعليهم أولى بأن يطلق من غيرهم. وأما محمد صلى الله عليه وسلم المؤمن بآيات الله، الخاضع لربه، فمحال أن يكذب على الله، ويتقول عليه ما لم يقل. فأعداؤه رموه بالكذب، الذي هو وصفهم فأظهر الله خزيهم، وبين فضائحهم، فله تعالى الحمد. * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ول كن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين * أول ئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأول ئك هم الغافلون * لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) * يخبر تعالى عن شناعة حال * (من كفر بالله من بعد إيمانه) * فعمي بعد ما أبصر، ورجع إلى الضلال بعد ما اهتدى، وشرح صدره بالكفر، راضيا به، مطمئنا، أن لهم الغضب الشديد، من الرب الرحيم، الذي إذا غضب، لم يقم لغضبه شيء، وغضب عليهم كل شيء. * (ولهم عذاب عظيم) * أي: في غاية الشدة، مع أنه دائم أبدا. و * (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) * حيث ارتدوا على أدبارهم، طمعا في شيء من حطام الدنيا، ورغبة فيه، وزهدا في خير الآخرة. فلما اختاروا الكفر على الإيمان، منعهم الله الهداية، فلم يهدهم، لأن الكفر وصفهم. فطبع على قلوبهم، فلا يدخلها خير، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فلا ينفذ منها ما ينفعهم، ويصل إلى قلوبهم. فشملتهم الغفلة، وأحاط بهم الخذلان، وحرموا رحمة الله، التي وسعت كل شيء. وذلك أنها أتتهم، فردوها، وعرضت عليهم، فلم يقبلوها. * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) * الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة، وفاتهم النعيم المقيم، وحصلوا على العذاب الأليم. وهذا بخلاف من أكره على الكفر، وأجبر عليه، وقلبه مطمئن بالإيمان، راغب فيه فإنه لا حرج عليه ولا إثم، ويجوز له النطق بكلمة الكفر، عند الإكراه عليها. ودل ذلك، على أن كلام المكره على الطلاق، أو العتاق، أو البيع، أو الشراء، أو سائر العقود، أنه لا عبرة به، ولا يترتب عليه حكم شرعي، لأنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر، إذا أكره عليها، فغيرها من باب أولى وأحرى. * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) * أي: ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم، لمن هاجر في سبيله، وخلى دياره وأمواله، طالبا لمرضاة الله، وفتن على دينه، ليرجع إلى الكفر، فثبت على الإيمان، وتخلص ما معه من اليقين. ثم جاهد أعداء الله، ليدخلهم في دين الله، بلسانه، ويده، وصبر على هذه العبادات الشاقة، على أكثر الناس. فهذه أكبر الأسباب، التي ينال بها أعظم العطايا، وأفضل المواهب، وهي مغفرة الله للذنوب، صغارها، وكبارها، المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه. ورحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم واستقامت أمور دينهم ودنياهم. فلهم الرحمة من الله في يوم القيامة. * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * كل يقول نفسي، لا يهمه سوى نفسه. ففي ذلك اليوم، يفتقر العبد إلى حصول مثقال ذرة من الخير. * (وتوفى كل نفس ما عملت) * من خير وشر * (وهم لا يظلمون) * فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم. * (فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون
(٤٥٠)