تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٤٨
* (وأوفوا بعهد الله) * إلى قوله: * (فيه تختلفون) *. * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) * هذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه، من العبادات والنذور، والأيمان التي عقدها، إذا كان بها برا. ويشتمل أيضا، ما تعاقد عليه هو وغيره، كالعهود بين المتعاقدين، وكالوعد الذي يعده العبد لغيره، ويؤكده على نفسه، فعليه في جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة، ولهذا نهى الله عن نقضها فقال: * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * بعقدها على اسم الله تعالى: * (وقد جعلتم الله عليكم) * أيها المتعاقدون * (كفيلا) *. فلا يحل لكم أن لا تحكموا ما جعلتم الله عليكم كفيلا، فيكون في ذلك ترك تعظيم الله، واستهانة به، وقد رضي الآخر منك باليمين، والتوكيد الذي جعلت الله فيه كفيلا. فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك، فلتف له بما قلته وأكدته . * (إن الله يعلم ما تفعلون) * فيجازي كل عامل بعمله، على حسب نيته ومقصده. * (ولا تكونوا) * في نقضكم للعهود بأسوإ الأمثال وأقبحها وأدلها على صفة متعاطيها. وذلك * (كالتي) * تغزل غزلا قويا، فإذا استحكم، وتم ما أريد منه * (نقضت غزلها من بعد قوة) * فجعلته * (أنكاثا) * فتعبت على الغزل، ثم على النقض، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء، وسفاهة العقل، ونقص الرأي، فكذلك من نقض ما عاهد عليه، فهو ظالم جاهل سفيه، ناقص الدين والمروءة. وقوله: * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة) *، أي: لا تنبغي هذه الحالة منكم، تعقدون الأيمان المؤكدة، وتنتظرون فيها الفرص، فإذا كان العاقد لها ضعيفا، غير قادر على الآخر، أتمها، لا لتعظيم العقد واليمين، بل لعجزه. وإن كان قويا، يرى مصلحته الدنيوية في نقضها، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه. كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس، وتقديما لها على مراد الله منكم، وعلى المروءة الإنسانية، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى. وهذا * (إنما يبلوكم الله به) * امتحانا حيث قبض لعباده من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي، من الفاجر الشقي. * (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) * فيجازي كلا بعمله، ويخزي الغادر. * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ول كن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون) * أي: * (لو شاء الله) * لجمع الناس على الهدى، و * (لجعلكم أمة واحدة) *. ولكنه تعالى المنفرد بالهداية والإضلال، وهدايته وإضلاله، من أفعاله التابعة لعلمه وحكمته. يعطي الهداية من يستحقها فضلا، ويمنعها من لا يستحقها، عدلا. * (ولتسألن عما كنتم تعملون) * من خير وشر، فيجازيكم عليها، أتم الجزاء، وأعدله. * (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) * أي: * (ولا تتخذوا أيمانكم) * وعهودكم ومواثيقكم * (دخلا بينكم) * أي: تبعا لأهوائكم، متى شئتم وفيتم بها، ومتى شئتم نقضتموها. فإنكم إذا فعلتم ذلك، تزل أقدامكم بعد ثبوتها على الصراط المستقيم. * (وتذوقوا السوء) * أي: العذاب الذي يسوءكم ويحزنكم * (بما صددتم عن سبيل الله) * حيث ضللتم، وأضللتم غيركم * (ولكم عذاب عظيم) * مضاعف. * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * يحذر تعالى عباده، من نقض العهود، والأيمان لأجل متاع الدنيا وحطامها فقال: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * تنالونه بالنقض وعدم الوفاء. * (إنما عند الله) * من الثواب العاجل والآجل، لمن آثر رضاه، وأوفى بما عاهد عليه الله * (هو خير لكم) * من حطام الدنيا الزائلة * (إن كنتم تعلمون) *. فآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن * (ما عندكم) * ولو كثر جدا، لا بد أن * (ينفد) * ويفنى. * (وما عند الله باق) * ببقائه، لا يفنى ولا يزول. فليس بعاقل، من آثر الفاني الخسيس، على الباقي النفيس، وهذا كقوله تعالى: * (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) * * (وما عند الله خير للأبرار) *، وفي هذا، الحث والترغيب على الزهد في الدنيا. خصوصا، الزهد المتعين، وهو الزهد فيما يكون ضررا على العبد، ويوجب له الاشتغال عما أوجب الله عليه، وتقديمه على
(٤٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 443 444 445 446 447 448 449 450 451 452 453 ... » »»