حق الله، فإن هذا الزهد واجب. ومن الدواعي للزهد، أن يقابل العبد لذات الدنيا وشهواتها بخيرات الآخرة. فإنه يجد من الفرق والتفاوت، ما يدعوه إلى إيثار أعلى الأمرين. وليس الزهد الممدوح، هو الانقطاع للعبادات القاصرة، كالصلاة، والصيام، والذكر ونحوها. بل لا يكون العبد زاهدا، زهدا صحيحا، حتى يقوم بما يقدر عليه، من الأوامر الشرعية، الظاهرة والباطنة ومن الدعوة إلى الله وإلى دينه بالقول والفعل. فالزهد الحقيقي، هو: الزهد فيما لا ينفع في الدين والدنيا، والرغبة والسعي في كل ما ينفع. * (ولنجزين الذين صبروا) * على طاعة الله، وعن معصيته، وفطموا أنفسهم عن الشهوات الدنيوية، المضرة بدينهم * (أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا والآخرة، فقال: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، بل لا تسمى أعمالا صالحة، إلا بالإيمان، والإيمان مقتض لها، فإنه: التصديق الجازم، المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات. فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح * (فلنحيينه حياة طيبة) * وذلك بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا، من حيث لا يحتسب. * (ولنجزينهم) * في الآخرة، * (أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * من أصناف اللذات، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فيؤتيه الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة. * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) * أي: فإذا أردت القراءة لكتاب الله، الذي هو أشرف الكتب وأجلها، وفيه صلاح القلوب، والعلوم الكثيرة، فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد، عند شروعه في الأمور الفاضلة، فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها. فالطريق إلى السلامة من شره الالتجاء إلى الله، والاستعاذة من شره، فيقول القارئ: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) متدبرا لمعناها، معتمدا بقلبه على الله، في صرفه عنه، مجتهدا في دفع وسواسه وأفكاره الرديئة، مجتهدا على السبب الأقوى في دفعه، وهو: التحلي بحلية الإيمان والتوكل. فإن الشيطان * (ليس له سلطان) * أي: تسلط * (على الذين آمنوا وعلى ربهم) * وحده لا شريك له * (يتوكلون) *، فيدفع الله عن المؤمنين المتوكلين عليه، شر الشيطان، ولا يبقى له عليهم سبيل. * (إنما سلطانه) * أي تسلطه * (على الذين يتولونه) * أي: يجعلونه لهم وليا. وذلك بتخليهم عن ولاية الله، ودخولهم في طاعة الشيطان، وانضمامهم لحزبه. فهم الذين جعلوا له ولاية على أنفسهم، فأزهم إلى المعاصي أزا، وقادهم إلى النار قودا. * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) * يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن، يتتبعون ما يرونه حجة لهم، وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم، الذي يشرع الأحكام، ويبدل حكما مكان آخر، لحكمته ورحمته، فإذا رأوه كذلك، قدحوا في الرسول، وبما جاء به، و * (قالوا إنما أنت مفتر) *. قال الله تعالى: * (بل أكثرهم لا يعلمون) * فهم جهال، لا علم لهم بربهم ولا بشرعه.
ومن المعلوم أن قدح الجاهل بلا علم، لا عبرة به، فإن القدح في الشيء فرع عن العلم به، وما يشتمل عليه، مما يوجب المدح والقدح. ولهذا ذكر تعالى حكمته في ذلك فقال: * (قل نزله روح القدس) * وهو جبريل الرسول، المقدس المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة. * (من ربك بالحق) * أي: نزوله من عند الله بالحق، وهو مشتمل على الحق، في أخباره، وأوامره، ونواهيه، في سبيل لأحد أن يقدح فيه قدحا صحيحا، لأنه إذا علم أنه الحق، علم أن ما عارضه وناقضه باطل. * (ليثبت الذين آمنوا) * عند نزول آياته وتواردها عليهم، وقتا بعد وقت. فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا، حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي، وأيضا، فإنهم يعلمون أنه الحق. وإذا شرع حكما من الأحكام، ثم نسخه، علموا أنه أبدله، بما هو مثله، أو خير منه لهم، وأن نسخه، هو المناسب للحكمة الربانية، والمناسبة العقلية. * (وهدى وبشرى للمسلمين) * أي: يهديهم إلى حقائق الأشياء، ويبين لهم